أنيميا المعرفة

أنيميا المعرفة

عبد الغني حماد الأنصاري: التعليم هو الهاجس وهو سفينة النجاة من طوفان الاستهلاب والإمعية والاستهلاكية وبه تستطيع حل قدر كبير من مشكلاتنا إن لم تكن كلها، فالتعليم الذي نقصده ليس التلقين والحفظ وترديد الملاحم والألفيات دون وعي أو مقدرة على الاستنطاق والبحث فيما نقرأ، وإنما التعليم الذي يفتح عقولنا لما حولننا ويبصرنا بمواطئ أقدامنا ويجعلنا قادرين على النظر إلى ما وراء الأفق .. تعليم يضعنا في محك الإبداع والقدرة ويجعلنا على قلق مستمر كلما ارتقينا سلماً تطلعنا إلى ما بعده واستشرفنا مدارات وآفاق. إن المشكلات التي نعاني منها اليوم سببها أنيميا المعرفة وسوء التغذية في العقول رغم أننا نملك أدمغةً جيدة والذكاء مبثوث في الدماء وفي الخلايا ولكن الذكاء اليوم لكي يعطي إبداعاً ويصنع مجتمعاً منتجاً وقادراً على المساهمة في حضارة اليوم لابد له من توجيه ورعاية وإلا فإنه سيتحول إلى سلاح يقضي على الأخضر واليابس، نعم إن الذكاء لا يذوب في الماء مع الاستحمام ولا يتبخر في الهواء وليته كذلك ولكنه يتحول إلى ذكاء إجرامي مدمر، والغريب إنه ذكاء يستفيد من تقنيات العصر ويوظفها للإجرام. نعم نحن أمة ذكية ولكننا وبتعليمنا البالي غير المتطور تأخرت مجتمعاتنا، وبتعليمنا البالي أصبحنا مجتمعاً علفياً نأكل كالأنعام ونردد كالببغاوات ما نجده بين أيدينا ونحاكي كالقرود ونقلد كل شيء بلا وعي تلك حقيقة يجب أن نعترف بها كمدخل للتغيير أما إذا دفنا رؤوسنا في الرمال وصرنا نطبل لأنفسنا ونتغنى بأننا سبب هذه النهضة وأننا من علم الغرب السواك واكتشفنا له الدورة الدموية، سنبقى في هامش الحياة متسولين على أفكار الغرب وتقنياته ولن يجد المتسول إلا السقط وما تبقى من موائد الآخرين. قد ينظر القارئ إلي بمنظار المتشائم أو الذي أدمن جلد الذات ولكن ليس الأمر كذلك ولكن هذا هو الواقع، رغم صحة الكلام القائل بأننا وضعنا أساسيات حضارة اليوم – ولكن السؤال كيف استطعنا ذلك؟. ذلك هذا هو السؤال المهم الذي يفك الشفرة وطلسم التخلف لدينا، نعم وضعنا أساسيات الحضارة يوم كنا أمة منفتحة على العلوم والمعارف بوعي وقدره على الاستنباط، ويوم كنا منكبين على التجريب والاختبار ويوم كنا متمسكين تمسك الواعي بما لدينا من قرآن كريم وسنة مطهرة، ويوم كنا وكان المسئول منا يخشى أن يسأل يوم الحق عن عثرة بقرة في أطراف البلاد، إذ ذاك كنا في محك الإبداع وكنا سادة الوقت والمعرفة أما اليوم أصبحنا نجتر الماضي وكلما أبدع الغرب منتجاً جديداً أو اكتشف شيئاً سخرنا وقلنا نحن من وضع الفكرة قبلهم وأذكر هنا حديثاً دار بشأن الجمعيات التعاونية والمسئولية الاجتماعية تجاه عدد من القضايا وكانت الخلاصة أن الغرب كان غافلاً ونحن الذين علمناهم فن التكافل، فإذا سلمنا جدلاً بذلك فما العيب في ذلك فهم استفادوا مما علموا به فأبدعوا لنا فكرة أطباء بلا حدود ومهندسون بلا حدود، وطوروا هذه الأفكار أكثر فأكثر فجعلوا شبابهم يقوم بأعمال تطوعية، لنظافة الأحياء وتنسيق الحدائق وتجدهم اليوم عند كل معاناة في العالم أو في الكوارث التي تحدث يعاونون الناس بلا حدود ويقدمون الطعام والملابس والخيام وهم أيضاً من ابتكروا فكرة الصليب الأحمر وفكرة منظمة اليونسكو واليونيسيف وعدداً لا يحصى من منظمات المجتمع المدني التي تقدم خدمات إنسانية راقية أصبحنا من فرط الغيرة نقلدهم دون أن ننسب إليهم الفضل بل نقول نحن أصحابها وهم المقلدون وتلك أزمة أخلاقية صحيح نحن نملك كتاباً سماوياً ًلا يطاله الشك لا من بين يديه ولا من خلفه ولكن لم نستفد منه كما ينبغي واكتفينا فقط بتكفير الآخر ونملك تراثاً غنياً بالفكر والفلسفة ولكن لم نقرأ ما بين سطورها واكتفينا بالحفظ ولدينا و لدينا ولكن كيف ننظر إلى ما لدينا وكيف نستفيد منه تلك هي معضلة التعليم لدينا. إن الغرب حتى وإن كان يدس أجندة خفيه حين يقدم الإغاثة أو الخيمة أو الدواء فهم أيضاً أذكياء في تطويع ما يتلفونه من علم وهم في ذلك لا يتأففون من تلقيه حيثما كان ومن أي مصدر المهم أنهم يعالجون هذا العلم بوعي وحرفية ٍ ويأخذون منه ما يفيدهم أما نحن فنلبس الثوب السويسري ونأكل الجبنة الدنماركية لذيذة الطعم ونتدفأ بالبطانية الإنجليزية ونبيعهم البقر والوبر والنفط أيضاً. "قال لي صديق عزيز أن تجاراً كانوا يتعاملون مع قوم بدائيين يشترون منهم الدجاجة بثمن زهيد جداً وبعدما يستفيدون من لحمها يلونون ريشها ثم يبيعونها لهم مرة أخرى بأضعاف أضعاف ثمن الدجاجة" - (عفواً هم قوم بدائيون فما علاقتنا بهم).
إنشرها

أضف تعليق