Author

"ضعاف النفوس" .. الهوامير الجدد

|
لا يمكن للإنسان الفرد أن يعيش وجوده الحقيقي إلا من خلال المواجهة والتحدي لمشكلاته والصعوبات التي يواجهها, ولا يمكن للإنسان في المجموعة والمجتمع أن يعيش وجودا فاعلا ومؤثرا في مقابل المجتمعات الأخرى إلا من خلال الاعتراف بالمشكلات والتحديات ومن ثم استيعابها والعمل على تجاوزها. فالطب أثبت أن العقل الذي لا يعيش التحدي ولا يستثار بالمشكلات عقل خامل سرعان ما يصاب بالضعف والوهن والمرض, وعلماء المجتمع لا ينتظرون التقدم والنهوض الحضاري من أمم تعيش ثقافة الهروب من مشكلاتها. فالأمم المتطورة هي بنفسها تستفز واقعها ليظهر لها مشكلات جديدة, وهي في الحقيقة تحديات جديدة تمدها بطاقة الحركة إلى الأمام, وهذا تتكفل به ثقافة المغامرة واقتحام المجهول وتوسيع الحاضر وتقريب المستقبل, وبالعكس من ذلك نجد أن الأمم المتخلفة تعيش ثقافة التستر على مشكلاتها والهروب من الاعتراف بها والخوف من الاقتراب منها والتمني بأنها ستختفي من وحدها أو أن المستقبل سيتكفل بحلها. في ظل مثل ثقافة كهذه تعيش الخوف والهروب من مشكلاتها فلا غرابة أن تعيش مجتمعاتنا العربية والإسلامية وهم المؤامرة والتآمر عليها والتوهم بأن جل مشكلاتها مستوردة ومن صنيعة غيرها. فمشكلاتنا المستوردة لا بد أن نستورد حلها ممن وردها لنا, وواقعنا المأزوم والمختنق بمشكلاته لن تنفك أزمته إلا عندما يتخلى العدو والمتآمر من كيده وتآمره علينا. إن مثل هذه الثقافة تنسينا أن المجتمع الذي لا يتحرك تعشش فيه المشكلات والأزمات كما تتكاثر البكتريا والفطريات في الماء الراكد, وأن التآمر على الأمم والمجتمعات لا ينجح ولا يتحقق إلا مع المجتمعات التي تعيش الضعف وعندها قابلية الخضوع والاستسلام للغير, فتوجيه اللوم إلى الآخر وتحميله مسؤولية مشكلاتنا هو قبل ذلك إدانة لأنفسنا بالضعف, وانتظار الآخر من أجل أن يخفف ضغطه علينا, إعلان لعجزنا عن تغيير أنفسنا, والله ـ سبحانه وتعالى ـ لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. واليوم نسمع كثيرا عن لاعبين جدد في معركة التآمر علينا واختلاق المشكلات في واقعنا وهم فئة "ضعاف النفوس", فصرنا مع كل مشكلة نواجهها نتوجه باللوم إلى من تسبب فيها وهم " ضعاف النفوس" في مجتمعنا, من غير أن نعرف أو يشرح لنا كيف كان لهؤلاء ضعاف النفوس أن يستقووا علينا وأن يجعلوا منا ضحايا لكيدهم ومؤامراتهم. ارتفاع أسعار المواد الغذائية ومواد البناء وغيرها من المواد الاستهلاكية بنسب كبيرة وعندما فشلنا في السيطرة عليها والحد من ارتفاعاتها بررنا ذلك بوجود ضعاف النفوس من التجار الذين يريدون أن يتاجروا بقوتنا وبلقمة عيشنا. وارتفعت أسعار الأدوية وكانت هي الأخرى قضية افتعلها وتسبب فيها ضعاف النفوس من المستوردين الذين هم كذلك وجدوا في حاجتنا إلى الدواء طريقا لإشباع طمعهم وجشعهم وتعظيم ثرواتهم بشكل غير مشروع. وعندما وجد هؤلاء المسمون ضعاف النفوس أننا أضعف مما يعتقدون وأكثر وهنا مما يتصورون فصاروا يستوردون لنا أدوية وعقاقير ومنتجات طبية حتى مواد غذائية إما مسرطنة وإما أنها تحوم حولها شكوك قوية ولها سند علمي حول تأثيراتها السلبية والضارة في صحتنا. وعندما ينهار مبنى أو منشأة عمرانية ويتسبب ذلك في حدوث خسائر بشرية ومادية ترانا سرعان ما نحدد السبب ونشخص المشكلة بذلك المقاول والمهندس ضعيف النفس الذي تلاعب في كميات المواد أو تجاوز المتطلبات الهندسية والشروط الفنية, وربما نضيف لهما مشرفا ضعيف النفس والنتيجة أن المشروع قد انهار لأنه تسرب إليه الضعف من هؤلاء ضعاف النفوس. حتى السعودة, وهي القضية التي صارت مدخلا لورود كثير من المشكلات علينا, فالفقر والبطالة ومشكلات الشباب وافتقاد الخبرة وتمكن المقيمين من التحكم في مفاصل حياتنا, كلها مظاهر استقوت عندنا عندما فشلنا في مواجهة القضية الأهم وهي السعودة, فحتى هذه القضية نسبنا فشلنا فيها وإخفاقنا في حلحلتها إلى ضعاف النفوس من التجار ورجال الأعمال ومديري الشركات في القطاع الخاص. فشل بهذا الحجم في قضية على هذا المستوى العالي من الأهمية نبرره بتآمر ضعاف النفوس من رجال الأعمال من أجل أن يحرموا أبناءنا وشبابنا حقهم في الحصول على عمل في وطنهم. حتى التستر على العمالة السائبة وغير الشرعية وما تنتجه لنا من مشكلات اجتماعية, هي حالة أوجدتها لنا فئة ضعاف النفوس التي لا تعرف من الانتماء لهذا المجتمع إلا ما يعود بالنفع عليها وعلى مصالحها الشخصية. وتستمر قائمة التآمر من قبل ضعاف النفوس, فطفايات الحرائق تنفجر بصاحبها أثناء استخدامها لأن من استوردها لم يراع فيها المعايير الفنية, فهو تاجر ضعيف النفس. ومشكلاتنا المرورية وكثرة الحوادث ليست بسبب ضعفنا في تطبيق الأنظمة المرورية وعدم اهتمامنا بالارتقاء بالنظم والتقنيات المرورية ولكن السبب هو كثرة ضعاف النفوس الذين يستمتعون بالعبث في شوارعنا. ووجد البعض في شماعة ضعاف النفوس ليبرر حتى إخفاقنا في التعليم, فلولا ضعاف النفوس من المدرسين لخرجت مدارسنا من العلماء والمفكرين ما يعود علينا بنصف جوائز "نوبل" سنويا, ولصار عندنا من الأفكار والاختراعات ما نملأ به المعارض العالمية, حتى الأسهم لوصلت إلى 30 ألف نقطة أو أكثر وما انهارت بهذا الشكل لولا فئة ضعاف النفوس من المضاربين الكبار الذين ابتلعوا كل مدخراتنا وأوهمونا بأن استمرار صعود المؤشر نتيجة مؤكدة لواقع الاقتصاد القوي عندنا واليوم يلوموننا ويكررون علينا أن الأسعار كانت متورمة جدا ولا بد من حصول عملية تصحيح تعيدها إلى مستواها الطبيعي. وحتى التطرف عند بعضنا صار يبسطه البعض على أنه مجرد استغلال من بعض ضعاف النفوس لطيبتنا وتديننا, وصار الكل يتهم ضعاف النفوس بأنهم هم من وراء مشكلاتنا, بل إن ضعف نفوسهم صار على قدر من القوة حتى باتوا يعرقلون ما نضعه من حلول وأنظمة لمواجهة هذه المشكلات. بل إن من يشم عنهم أنهم من فئة ضعاف النفوس صاروا يعيدون رمي كرة الاتهام بضعف النفوس على من يفكر أو يحاول الحد من تصرفاتهم, فالعاطل عن العمل هو من يتحمل مسؤولية عطالته لأنه لا يصلح لأن يعمل, وسوء مخرجات التعليم ليس إلا لأن طلابنا كسالى ولا يبدون حماسة في دراستهم. هل المسألة حقا أننا صرنا ضحايا لهذا العدو الداخلي من ضعاف النفوس أم أن الضعف فينا ونحن من يتحمل مسؤولية عدم التصدي الجاد لمثل هذه المشكلات؟ فالرقي في التنظيم والشفافية والإصرار على تطبيق الأنظمة والجدية في محاربة الفساد هي الكفيلة بألا يكون عندنا تاجر يستورد لنا ما لا يسمح تصنيعه واستخدامه في المجتمعات الأخرى, وهي تكفينا لنحقق ما عجزنا عن تحقيقه في كل هذه السنوات الطويلة لسعودة كثير من الأعمال والمهن في سوق العمل عندنا. ضعاف النفوس كائنات مثلها مثل البكتريا موجودة على الدوام ولكنها لا تنشط وتفعل فعلها إلا عندما يضعف حاملها ومن يعيش إلى جوارها, فضعيف النفس لا يستقوي علينا إلا بمقدار ما نتيح له من قوة علينا, فلندع ضعاف النفوس وشأنهم وننشغل بتقوية أنفسنا ومجتمعنا ونظهر لهم جديتنا في الارتقاء بواقعنا إلى الحد الذي لا يكون لهم موقع أو مكان بيننا.
إنشرها