Author

كريه هو النجاح!!

|
قال صاحبي: عشت ردحاً من الزمن أخالط أصدقاء ومعارف وعابرين، أذهلني في معظمهم مبادرتهم إلى المراوغة أو الهروب من محاولة الإقرار بنجاح شخص وتميزه في أي مجال أو خصلة، هذا في أحسن الأحوال، إنما في الغالب الأعم لا يتردد البعض في الحط من شأنه أو الإنكار لنجاحه وتميزه وأحياناً يتم طمس البريق وإطفاؤه بإدارة الحديث إلى الجانب المظلم من قمر هذا الشخص، إن كان له جانب مظلم، وإذا لم يكن له جعل له جانباً مظلما رغم أنف الدنيا: مرة بالإشارة إلى أن الظروف ساعدته أو الصدف، ومرة بإحالة الأمر إلى المحسوبية والواسطة أو السند العائلي وما شابه ذلك. قلت: ألا ترى أن تلك سمة بشرية عامة لا تخصنا نحن بالذات كمجتمع؟ قال: ربما .. لكنها في المجتمعات الأخرى لا تشكل ظاهرة حادة كما هو الحال لدينا قلت: أنت إذاً ميال إلى إدانة مجتمعنا بقسوة أكثر من كونك متفهماً مشخصا علة بروز هذه الظاهرة وطغيانها كسمة سيكلوجية خلقية .. ومع ذلك دعنا نتوطأ على أن ما تقوله صحيح إلى حد كبير، لكن ألا تعتقد أن ذلك هو فائض قيمة التخلف، أي حاصل الفرق بين مستوى الوعي ومستوى التخلف.. أو بمعنى أشد مشاكسة ودون حواربة، فضيحة مداهنة الوعي للتخلف إن لم يكن الولاء له، بل الإذعان والاستخذاء أمامه؟! قال صاحبي: أنت تصف سلوك الظاهرة ولا تحللها.. وإلا فإن الغارات التي يشنها بعضنا على نجاح بعضنا الآخر، تشير إلى حزازات عمياء تجوس في أغوار ذواتنا الدامسة، وأن مناهج دروسنا وعلمنا لم تفلح في ردمهاو تأثيثها بالوهج البهي لألق المعرفة وأنوار الوعي الخالص.. قلت: هذا بعض الظن، ولعله، مما ليس إثما، مع أنك بهذا تبرئ ساحة التاريخ والجغرافيا .. فقد تلاعب بنا التاريخ حتى أحال نفسياتنا إلى بحيرات، دمع أجاج أو حنظل فائض فبتنا أميل للاستياء والاكفهرار نجانب السماحة ونجنح للمقت والكراهية، ننحاز للحدث كما لو كنا ضده حتى ليبدو مديحنا قدحا وقدحنا مديحا، فعل ذلك على نحو قسري ظرفي أجدادنا، ونفعله نحن بحكم الانصياع الجيني مرة والكسل الثقافي مرات، أما الجغرافيا فدونك هذه الصحراء، كل جهاتها تيه في تيه شاحصة رمالها كأن أبعادها السحيقة عيون "ميد وزا" الأسطورية التي تجعل كل من ينظر إليها حجراً، وقد أحالتنا إلى ما يشبه ذلك، خشونة مفرطة، كلمات ومنطقا، إلا من رحم ربي. والصحراء – يا صاحبي – منطقة طرد، وليست منطقة جذب، وهي إن كانت قد طردت العابرين بعيداً عنها فإنها أسكنت نفوسنا حالة طرد مزمنة جعلتنا نمعن في نفي النجاح عن سوانا وطرده!! قال صاحبي: هذا منطق تبريري وليس تفسيريا أو تحليليا كما أشرت. وهو في كل الأحوال مما يمكن رفعه مظلة على غيرنا ممن عانوا مثلنا مكابدات جغرافيا الصحراء وتاريخها، بيد أني، مع تقديري لمرافعتك غير المباشرة عنا، أرى العلة كامنة في الحاضر، أكثر من الماضي، ودون احتجاج بمناهج الدرس والعلم أيضا.. فثمة اليوم جفوة مرعبة مع العقل مقابل تهافت على الشعوذة والخرافة والإشاعة، يتلذذ للسباحة فيها من هم على مقاعد الدراسة الابتدائية وكذلك من هم حملة الشهادات العليا.. ويكفيك أن تنصت لحديث المجالس أو لما يدور في أروقة الجامعات، فستجد أننا: (لقد لبسنا قشرة الحضارة.. والروح جاهلية) كما قال نزار. قلت لصاحبي: اتهمتك بالقسوة في حكمك وإذا بي أجاريك فيها.. وما دام الأمر كذلك، فهل يثبت قبضنا على نفسينا متلبسين بما نحن نشجبه، أن ما ذهبنا إليه صحيح؟ قال صاحبي: ألم يقل جدنا الشاعر عمر بن أبي ربيعة: وقبيح قول: لا بعد نعم؟!
إنشرها