Author

تجنباً لمشكلات الربا .. إنشاء مؤسسات أو صناديق إقراض الضرورة

|
إن من حق ديننا علينا أن ننطلق به إلى الناس كافة كما أمرنا المولى عز وجل، ولن يتسنى لنا ذلك إلا إذا قدمناه – في كل المسائل محل الخلاف – بالصورة التي ترقى إلى العقل والمنطق والفطرة الإنسانية، وهو كذلك، لأنه من حق البشرية جمعاء أن تنعم بقيم وخير هذا الدين الراقي، ومن ثم فهي مسؤوليتنا أمام الله، لأنه لم يجعلنا خير أمة أخرجت للناس، إلا لكوننا مسؤولين عن حمل خير رسالة إلى الإنسانية جمعاء، وإلا فما مبرر تميزنا؟! أعتقد أنه قد آن الأوان لعملاء الدين (وغيرهم من أهل الاختصاص) في العالم الإسلامي إدراك قدر المخاطر والمكائد التي تحاك لهذا الدين ولأهله، ولن يتسنى للأمة الخروج من مآزقها إلا بوحدة رجال دينها وعلمائها، لا بالتفرق والتشتت والتشرذم في صورة جماعات يكفر بعضها بعضا أو على الأقل يسفه بعضها البعض الآخر، لأننا بهذا الوضع المتردي نكون قد دخلنا في دائرة المصالح والأنا، وابتعدنا كلية عن المقاصد العظيمة لرسالة الوحدة والتوحيد والتسامح التي دعتنا إلى الاعتصام بحبل الله المتين. وتبقى قضية الربا والنشاط المصرفي مثالاً صارخاً يؤكد أن هناك مشكلة كبرى، لم يوضع لها حل جامع وموحد يعكس وحدة الأمة ووحدة رسالتها. وإعراباً عن مسؤوليتي كباحث واقتصادي عربي مسلم، أعرض فكرتي المشار إليها في هذا المقال، وهو اجتهاد قابل للرفض أو التعديل، المهم أن يدلي كل متخصص منا بدلوه قاصداً وجه المولى عز وجل. وكنت قد طرحت فكرتي هذه لأول مرة عام 2002م، أي منذ أكثر من ست سنوات في أحد مؤلفاتي المتاحة على شبكة الإنترنت. ففي سبيل بحثنا عن حل وسط يحفظ - بل يكرس - قيم ومبادئ ديننا الحنيف، كما يجاري متغيرات العصر، أقترح تخصيص مؤسسات مسؤوليتها توفير إقراض من دون فائدة وهو الإقراض للضرورةNecessity Borrowing or Lending أو الحاجة. ونحن نفضل تسمية صناديق إقراض الضرورة أو الحاجة Necessity Loan’ s Funds على تسمية بنوك الفقراء، احتراماً وتقديراً للمتعاملين معها والمستفيدين منها، وعلى تسمية مؤسسات القرض الحسن، لأن في القول بالقرض الحسن وصف (بمفهوم المخالفة) للإقراض بفائدة (غير المحرم) على أنه إقراض غير حسن، وهو من وجهة نظرنا غير ذلك، خاصة إذا ما راعينا التنظيم المقترح أدناه وذلك على النحو التالي: التزام كل من وزارة الأوقاف والأزهر (ونظرائهما في باقي البلدان الإسلامية وغير الإسلامية) بتوفير رؤوس الأموال الكافية Sufficient Fund لتلبية الطلب على هذا النوع من الإقراض، طالما كان في حدود مبلغ محدد يعادل حد الكفاية الإسلامي (تحدده الجهات التي ستشكل لمثل هذا الغرض، وهو سيختلف من بلد لآخر حسب الظروف الاقتصادية ومستويات المعيشة لكل بلد)، وكان بغرض توفير احتياجات أساسية ينص عليها في عقد القرض. إلزام البنوك العادية - أي التي تقرض بالفائدة المعتادة - بتخصيص نسبة معينة من الحسابات والإيداعات الجارية Current Accounts لديها لأغراض إقراض الضرورة. كأن يكون القرض في حدود ألف جنيه، بأن يخصص مكتب داخل كل بنك من تلك البنوك لهذا الغرض، وتحت إشراف مكتب رئيسي لدى البنك المركزي في كل قُطر مسلم، وبهذا نستطيع أن نستشعر أن هناك دورا اجتماعيا للبنوك. التوسع في عمليات إقراض الضرورة أو الحاجة من قبل بنك ناصر الاجتماعي في مصر (ونظرائه من البنوك الاجتماعية في باقي البلدان الإسلامية) وفقاً لترتيبات يتفق عليها من حيث مصادر التمويل، على أن يتم توحيد رسم الإقراض من المصادر المختلفة. كما تلتزم وزارة المالية بتخصيص نسبة ولتكن 2 إلى 5 في المائة من حصيلة الضرائب السنوية لأغراض إقراض الضرورة، يودع لدى أي من الجهات المشار إليها وفقاً لترتيب يتفق عليه في إطار قانوني منظم. إذا ما قدم المقترض لمثل هذا القرض الوثائق الدالة على عدم قدرته على رد أصل القرض في وقت الوفاء المتفق عليه، يسمح له بالتأجيل لأجل جديد وفقاً للقواعد التي ستسن لهذا الغرض (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ). وإذا ما قدم ما يثبت استحالة قدرته على السداد، كأن يكون عامل يومية وفقد ساعديه أو ما شابه ذلك، يجوز إعفاؤه من مبلغ القرض على أن تتم تسويته من أموال الزكاة لدى تلك الصناديق. لن تكون هناك مشكلة في إدارة وربط عمل تلك الصناديق على مستوى الجمهورية (أو البلد المسلم) بل على مستوى العالم، خاصة بعد ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات. فقد يشكك البعض في جدوى تلك الآلية، حيث يمكن للفرد الواحد الاقتراض من أكثر من صندوق في أكثر من مدينة بدعوى الضرورة، ولكن يرد على ذلك بأنه بمجرد التقدم لطلب القرض يمكن التأكد في اللحظة ذاتها من خلال شبكة ربط المعلومات بين تلك الصناديق من كون المتقدم سبق له الحصول على القرض أم لا، ومن ثم لن تكون هناك فرصة للتحايل. يسمح لجهة إقراض الضرورة بالحصول على رسوم إدارية Administrative Fees في حدود 1 في المائة من أصل القرض، في سبيل الحفاظ على استمرارية إدارة وتطوير هذا النوع من الإقراض ومؤسساته. قيام الدولة بمنح تيسيرات وتسهيلات وحوافز Incentives للبنوك والمؤسسات التي تتوسع في النسبة من الحسابات الجارية المخصصة لإقراض الضرورة، حتى يكون لديها الحافز على التوسع في مثل هذا النوع من الإقراض، كما أن في تقديم مثل هذه التيسيرات حفز لغيرهم على تلك المنافسة الخيرة. قد تكون تلك التيسيرات في صورة تخفيض نسبة الاحتياطي الإلزامي أو غير ذلك من الحوافز المتعددة في الجهاز المصرفي. ينبغي تشكيل هيئة موحدة National Unified Councilعلى المستوى القومي للإشراف على الهيئات والمكاتب التي تتولى هذا الإقراض، حتى لا يساء استخدامها سواء من قبل المقترضين أو الموظفين (وأن يكون مركزها في البنك المركزي مثلاً). ويمكن أن تتشكل هيئة ربط لتلك الصناديق على مستوى العالم الإسلامي بحيث يمكن أن تصب في بعضها بعضا. إن كافة الأمور الشكلية الخاصة بمثل هذا التنظيم يمكن تسويتها من خلال التعاون بين جهات الاختصاص، وعلى رأسها البنك المركزي والأزهر ووزارة الشؤون والتأمينات الاجتماعية، حتى لا يتم الالتفاف أو التلاعب من قبل أي طرف كان. كما يلتزم صندوق إقراض الضرورة بالإفصاح الدوري عن مؤشرات أدائه وإصدار تقرير سنوي مفصل يخضع للتحليل والتقييم من قِبل أهل الاختصاص حتى نضمن استمرار مسيرة تطوره ونجاحه في تحقيق أهدافه. بهذه الطريقة نكون قد سددنا باب التشكيك ونقاط الضعف التي تعتري أنظمة الصرف ومؤسسات الائتمان القائمة، حيث لا توجد لديها أبواب لإقراض ذوي الحاجة دون فائدة. فالأفراد الذين يبحثون عن قروض بهدف الاستثمار أو التوسع في استثمارات قائمة يمكنهم ذلك من خلال الإجراءات المعتادة للاقتراض، مع الالتزام بأسعار الفائدة السارية، فهذه مسألة أولى أن يوكل أمر الحديث فيها لأهل الاقتصاد. أما من هم يعانون العوز والحاجة أو يبحثون عن مصدر تمويل لتلبية احتياجاتهم الأساسية فأمامهم أبواب إقراض الضرورة. ولن تكون هناك مشكلة في توفير مصادر مالية لمثل هذا النوع من الإقراض، حيث توجد أموال الزكاة والتبرعات وأموال التأمينات والمعاشات. وفي هذا الإطار، ينبغي على مسؤولي البنوك إدراك أن هناك التزاما اجتماعيا على البنوك العادية والتجارية بتخصيص نسبة لإقراض الضرورة ولتكن 15 في المائة من الحسابات الجارية. كما يمكن الشروع في إنشاء صندوق إسلامي عالمي، له مكاتبه وفروعه في كافة بلدان العالم الإسلامي، خاصة الفقيرة منها، يتلقى أموال الزكاة والتبرعات خاصة من دول الخليج والمسلمين في الغرب. تخصص أموال مثل هذا الصندوق لأغراض إقراض الضرورة. ولكن لن يحدث هذا في غياب تنسيق إسلامي عالمي. إن إنشاء مثل هذا الصندوق سيوطد من أواصر الوحدة بين أبناء العالم الإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها. فالمسلمون في الكويت والصومال والإمارات وتشاد وقطر والسودان .. يكونون على قلب رجل واحد، خاصة ونحن لا نبحث أو لن نعتمد على مصدر جديد بل مصدر قائم؛ وهو الزكاة والتبرعات. لذا فإن المشكلة من وجهة نظرنا لا تعدو أن تكون مشكلة تنظيم. وإذا كنا قد عرضنا في الصفحات السابقة لمزايا إنشاء مثل تلك الصناديق لتوفير هذا النوع من الإقراض من منظور معالجة قضية الربا، فإن هناك مزايا اقتصادية أخرى ستترتب على توفير هذا النوع من الإقراض. فالضخ المالي على أثر منح القرض سيعيد تدوير النقود في الاقتصاد حيث زيادة الطلب الاستهلاكي، ومن ثم التوسع نحو مزيد من النشاط الإنتاجي لتلبية الطلب المتزايد، الأمر الذي سينعكس على سوق العمل والإنتاج بالإيجاب. لقد كان مقترح جون ماينارد كينز، وفي سبيل الخروج من أزمة الكساد العالمي أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، (والذي هو قيد التطبيق الحرفي خلال الأزمة المالية الحالية) هو تشجيع الطلب الفاعل من خلال توفير الموارد المالية لدى الأفراد من خلال التوظيف وتمويل مشروعات جديدة، ازداد الطلب الاستهلاكي، عادت عجلة الإنتاج للعمل من جديد بعد التوقف على أثر الكساد، وأعيد التوظيف وعادت الحياة للاقتصاد من جديد. ففي ظل الإدارة الاقتصادية السليمة، لا مجال للحديث عن العرض في ظل غياب الطلب الفاعل طالما توافرت الشفافية الكاملة. ومن ثم فإن توفير آلية كتلك التي تقترحها الدراسة يقدم صورة إسلامية حضارية للغرب، تعجل بتقبله الإطار الإسلامي للنشاط الاقتصادي والإسلام كمنهج حياة. كما قد يعترض القائمين على شؤون المصارف على هذا الاقتراح بحجة إلزامهم بالإقراض بدون فائدة من جزء من الحسابات الجارية، من ثم الحد من أرباحهم أو من السيولة المتوافرة لديهم، ولكن يرد على هذا الاعتراض بأنه في قيام هذه الآلية يكون الجهاز المصرفي في مقدمة المستفيدين، حيث سيكتسب ثقة الأفراد ومن ثم سيزداد الإقبال على الإيداع والاقتراض وسيتدافع المتشككون السابقون بأرصدتهم للإيداع في تلك البنوك، بعد أن ميزت في إقراضها بين ذوي الحاجة من طالبي القرض وبين طالبي القرض بغرض الاستثمار.
إنشرها