Author

الحرب على غزة .. إيجابيات وسلبيات

|
الحرب الهمجية التي شنها الكيان الصهيوني على غزة لأكثر من ثلاثة أسابيع, ولم يفرق فيها بين مدني وغير مدني, وبين منزل ومنشأة عامة, وبين مسجد ومستشفى ومدرسة, لم تنته بعد حتى إن خفت صوت الطائرات والمدافع والصواريخ, كشفت كثيرا من مواطن القوة ومواطن الضعف في جسد الأمة. وحتى نضع النقاط على الحروف لا بد من استرجاع بعض ما حدث من مواقف إيجابية, وسلبية, ومماحكات بين أقطاب الأمة التي أصبحت تتناحر فيما بينها, وتتسابق نحو الهاوية دونما أخذ في الحسبان المآل الذي تجر إليه الأمة بفعل أبنائها, أو بالأحرى, وبعبارة أدق بفعل الأنظمة السياسية التي تحكم قبضتها على الأمة منذ عقود. عندما بدأت دولة الكيان الصهيوني حربها على الشعب الأعزل في غزة هبت الأمة في كل مكان, ومعها الأحرار من شعوب العالم معبرة عن رفضها تصرفات الكيان الصهيوني الهمجية, ومع التحرك في الشارع, ومن خلال الإعلام والمساجد, كانت هناك جهود استهدفت جمع التبرعات والدعم الإنساني للإخوة الفلسطينيين الذين يحاصرهم العدو, ويضيق عليهم الخناق حتى إنه منع عنهم الغذاء والدواء, وأدوات البناء, وكل المستلزمات الحياتية, ولو كان بمقدور العدو أن يمنع عنهم الهواء لفعل ذلك, إنه لم يبخل عليهم بشيء من مدمرات الحياة واستخدم جميع المحرمات من الأسلحة وملوثات الجو. وهذه الوقفة والهبة من أبناء الأمة تمثل خاصية تحسب للأمة في صفائها, ومتانتها وقوتها وقدرتها على مواجهة الأزمات التي تمر بها, ما يعني أن الأصالة تجري في دماء الأمة حتى ولو اعتراها الضعف في بعض الأوقات وتناوبت عليها العلل والأمراض. أصالة الأمة هذه اتضحت من خلال الوقفة الصلبة بجانب المظلومين من الفلسطينيين استجابة لمبدأ "انصر أخاك ظالماً أو مظلوما", حيث أخذت هذه النصرة أشكالاً متعددة. ولفت نظري من الأمور الإيجابية أثناء الأزمة التغطية الإعلامية الشاملة والدقيقة, والموضوعية التي كشفت الوجه القبيح للعدو رغم أنه منكشف أمام القريب والبعيد منذ أن وفد من أوروبا وأقام دولته على أرض فلسطين. التغطية الإعلامية والتوثيق بالصوت والصورة لآلة الحرب الصهيونية وأسلحتها, وتصوير أشلاء الضحايا والمعوقين من جراء الحرب, والبيوت المدمرة, ورغم مرارة المناظر وقسوتها تمثل تطورا في الإعلام العربي, وبالأخص تلك القنوات التي عاشت داخل الحدث كـ "الجزيرة" و"العربية", كما تمثل تحولاً يخرجها من فلسفة إعلام التركيز على الفرد إلى إعلام التركيز على القضايا, الذي نفتقده لعقود ويبعدها عن إعلام الترفيه الماجن الذي دأبت عليه بعض القنوات العربية وكأنها تستهدف قتل العقول والمشاعر معا. التفاعل مع الحدث المزلزل لم يقتصر على المظاهرات وجمع التبرعات, والدعاء والتغطية الإعلامية, بل شمل أيضاً عقد الندوات, ما جعل الأمة تعيش بكاملها مع الحدث, وهذه الأفعال مؤشرات إيجابية تبعث على الأمل وتطرد اليأس من النفوس, كما أن الجهد القانوني من قبل المحامين والقانونيين العرب, وتشكيل لجان والاتصال بالمحامين وهيئات حقوق الإنسان الدولية بغرض محاكمة مجرمي الحرب الصهاينة, يمثل ملمحا بارزا لهذه الحرب. أما المؤشرات السلبية التي برزت خلال الأزمة فكثيرة لكن أبرزها انسياقنا وراء التصنيف القادم من وراء الحدود, الذي قسم الأمة إلى معتدلين ومتطرفين, وصرنا نتصرف مع بعضنا بعضا وفق هذا التصنيف حتى أن كل طرف في النظام العربي الرسمي أصبح يكيد للطرف الآخر, ولم نعد نسمع ونقرأ في وسائل الإعلام سوى الاتهامات, والاتهامات المضادة ما يعني أن الأمة تعيش حالة من التمزق النفسي, والتباعد بين مكوناتها, وأصبحنا نتصرف وفق هذا التصنيف, وكأن أحدا يحركنا بجهاز التحكم عن بعد. كما أن الشيء الذي لا يستطيع المرء فهمه وقبوله هو الاستماتة, والسعي الحثيث لإقامة سلام مع العدو, الذي استمر حتى أثناء أعمال القتل والتدمير الصهيونية في حين أن الجهود لإقامة السلام مع الذات محدودة, وتتعثر على أرض الواقع, وتقتصر على المجاملات بين أقطاب النظام الرسمي العربي الذي فشل في التئام شمله أثناء الأزمة, وعدم انعقاد قمة خاصة بغزة في حين أن مصر استطاعت, وخلال 24 ساعة تنظيم قمة سميت القمة الدولية في شرم الشيخ, حضرها كل من فرنسا, بريطانيا, ألمانيا, إسباينا, إيطاليا, والتشيك, ومعها إسرائيل والأردن, ونجم عن هذه القمة الاتفاق على محاربة تهريب السلاح إلى غزة, وكأن أبناء غزة هم الذين استخدموا الأسلحة المنضبة باليورانيوم والفسفور الأبيض. إن الانفتاح على العالم الآخر الأوروبي والأمريكي, والتعاون معه لمحاصرة غزة, والسماح للسفن, والفرقاطات كما هو في حال الفرقاطة الفرنسية التي باشرت عملها قبالة سواحل غزة يمثل أبشع صورة من صور التمزق الذي تحياه الأمة, وعدم وضوح الهدف ولا الآليات التي توظف لتحقيق الهدف من قبل النظام الرسمي العربي الذي أصبح يألف العدو, ويأنف من الأخ, وكأنه يطبق بيت الشعر القائل: عوى الذئب فاستأنست للذئب لما عوى وصوت إنسان فكدت أهربا إن الارتماء في أحضان الأجنبي والانسياق وراءه, وتنفيذ خططه يفقد الأمة العربية, والإسلامية فاعليتها على الصعيد الدولي, ويجعلها عاجزة عن معالجة مشكلاتها. إن حالة فقدان الثقة بين العرب وانتقاص الذات والشعور بالهزيمة الداخلية تمثل أهم ملامح الوضع العربي الراهن, وهذا ما أفقدنا زمام المبادرة, بل إن العرب سلموا ملفاتهم للآخرين يعالجونها بالنيابة عنهم ويحددون لهم طرائق وأساليب التعامل مع مشكلاتهم, وحدود الحركة المسموح لهم فيها, وهذا ما أدركه المواطن العادي قبل المثقف, والمتعلم والمتابع لأوضاع الأمة. ولو خرج أبو الطيب المتنبي في الوقت الراهن, وعاش, ولو ساعة يراقب أوضاع الأمة لا أدري ماذا سيقول في وصف الوضع الراهن, وهو الذي قال قبل مئات السنين: يا أمة ضحكت من جهلها الأمم. لا شك أن المحن والشدائد تصهر الأفراد والأمم, وتفرز الطيب من الخبيث, وتقوي العزائم, وتكسب الخبرة التي ما أشد حاجتنا إليها لأن المستقبل مليء بالتحديات, وكم من أمة نهضت بعد أن أصبحت حطاماً وصدق من قال "وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم".
إنشرها