Author

المجتمع والشركات: مَن الذي يجب أن يتحمّل المسؤولية تجاه الآخر؟!.. (2 من 3)

|
على الشركات أن تتحمل مسؤوليتها تجاه المجتمع أولاً: لقد تسارعتْ التغيرات حتى أصبح إنفاق المؤسسات الخاصة على العمل العام الذي يهدف إلى خدمة المجتمع، جزءاً واجباً من نشاطها الذي عليها أن تمارسه لتحقق أهدافها المادية وغير المادية، مثلها في ذلك مثل المؤسسات الحكومية وغير الهادفة للربح أصلاً، فالجميع عليه واجب القيام بدور متميز تجاه المجتمع كائناً ما كان تخصصه ومجاله. ولا تكاد تخلو مؤسسة خاصة أو رجل أعمال من الاهتمام بالمجتمع وتقديم النفع له والحرص على التواصل معه.. وذلك ليس جديداً ولا غريباً علينا.. فبلادنا لديها رصيد كبير من المبادرات الاجتماعية بسبب ما نشأنا عليه من قيمٍ دينية سامية بفضل الله. وحتى مع الدور الواسع للحكومة في التنمية والرعاية الاجتماعية فقد تواصلتْ مساهمات الأفراد والشركات على مرّ العقود السابقة، واتجه بعضها إلى المجتمعات الأخرى متمثلة في المدارس والمستشفيات والآبار والمراكز الحضارية وغيرها. لقد ظلّتْ المشاركات الاجتماعية لسنوات تعتمد على المبادرات الفردية والعمل غير المؤسسي، إلا أنه ومع زيادة دور القطاع الخاص في عملية التنمية الاقتصادية.. وضغط الحاجة إلى تحقيق تكاملٍ وتعاون بينه وبين الدولة لتنمية المجتمع.. بدأت تلك المبادرات تأخذ شكلاً منظماً بأهداف واضحة واستراتيجيات معلنة تحت مظلة " المسؤولية الاجتماعية" وتتحوّل لتنتقل إلى خانتها الصحيحة وتُدرج في الميزانية العمومية تحت بند المساهمات الاجتماعية.. أو بغرض التسويق للشركات كما هو ظاهر في عديد من المؤسسات.. وعليه فلابدّ من التأكيد على أن الفرق كبير بين المرحلة السابقة التي اعتمدت على المبادرات الفردية، وبين ثقافة الواقع التي تتطلب برامج تنموية تحقّق التنمية المستدامة التي تساند جهود التنمية المتكاملة، ومن أنه لابدّ من أن تكون النظرة العميقة إلى المسؤولية الاجتماعية باعتبارها مطلبا دينيا وواجبا وطنيا، تنطلق من نظرة الإسلام الشاملة لمسؤولية المجتمع عن الفرد، وحقّ المجتمع على الأفراد، النظرة المتكاملة التي يفتقدها كثير من المجتمعات الأخرى. ولذا رأينا ولا نزال نرى بفضل الله.. تزايد اهتمام الشركات بدورها الاجتماعي فتسامتْ من خدمات تطوعية اختيارية إلى واجب وطني نحو المجتمع.. وهناك تطوّر واضح في مستوى الوعي لدى متخذي القرار في القطاع الخاص إلى أنّ قيام الشركات بمسؤولياتها الاجتماعية والتفاعل مع قضايا الناس واحتياجاتهم سيسهم في كسبها ثقة المجتمع واحترامه، ويزيد من قبولها في أوساط المستفيدين وإقبالهم على منتجاتها وخدماتها وأنشطتها.. وإلى أن المسؤولية الاجتماعية ليستْ نوعاً من الترف أو بحثاً عن الوجاهة والظهور.. بل أصبحت جزءاً من حقّ المجتمع.. ولابدّ من الالتزام بأداء هذا الحق أولاً.. حتى يلتزم المجتمع بحقوق الشركة عليه. عقبات حقيقية تحجّم تبني برامج المسؤولية الاجتماعية للشركات: من المهم أن يلاحظ المجتمع أن القطاع الخاص يقوم بدور اجتماعي فاعل.. ومن المهم أيضاً أن يعرف المجتمع أن زيادة هذا الدور مسألة اختيارية بشكل أو بآخر، لأن كلّ مؤسسة أدرى بظروفها وإمكاناتها وبالدور المطلوب منها. ومع ذلك.. فهناك عديد مِن شركات القطاع الخاص التي تواجه عقبات حقيقية تثبط رغبتهم في تبني برامج خدمة المجتمع والقيام بأدوار أكثر مسؤولية تجاه المجتمع.. ومن خلال تحليلي للعقبات أجد أنها تتمحور حول أربعة أمور: العقبة الأولى: ضعف الوعي والمعرفة بالمسؤولية الاجتماعية لدى شريحة من رجال الأعمال والشركات، بل وغيابه تماماً لدى البعض الآخر، ووجود الخلط الواضح بين خدمة المجتمع ومفاهيم العمل الخيري.. ولا أنكر أيضاً وجود شريحة من المؤسسات التي تنعدم عندها الرغبة في تبني هذا الموضوع. بالأمس القريب فقط كنتُ أتحدث مع أحد ملاك الشركات العائلية الصناعية التجارية الكبرى وأخبرته بأنني سأنشر مقالاً في هذا الموضوع، فسألني بكل تلقائية وما معنى (المسؤولية الاجتماعية)؟! العقبة الثانية: عدم توافر المعلومات الكافية والدراسات والمسوحات البحثية عن احتياجات المجتمعات المحلية من الخدمات والمشاريع التنموية اللازمة، وأزمة فقدان المعلومات ليست محصورة في هذا الموضوع.. بل هي مشكلة ظاهرة في كثير من نواحي حياتنا، ليست هناك معلومات موثّقة ولا إحصائيات دقيقة محدّثة ولا مصادر موثوقة.‏. وإنْ وُجدت فلا تدري كيف ولا أين يمكنك العثور عليها؟ العقبة الثالثة: العقبات المرتبطة بالجهات الحكومية مثل الروتين وعدم التعاون في إصدار التراخيص اللازمة.. وسوف أستعرض تفاصيل هذا الأمر في عنوان الفقرة التالية (مسؤولية الجهات الحكومية تجاه الشركات ورجال الأعمال). العقبة الرابعة: قلة الخبرات التنفيذية التي يمكن أن تطوّر وتُدير جهود خدمة المجتمع في الشركات وتشرف على وضع معايير محددة لقياس جهودها وآثارها تجاه المجتمع. وليس خافياً – ولا عيبا - أن أغلب الجهات الكبرى التي أسست إدارات خاصة لخدمة المجتمع ما زالت توظف وتعدل وتدرب على أساسيات هذا الفكر، وإلى الأمس القريب أيضاً أذكر مسؤول إحدى كبرى الجهات المصرفية وهو يطلب منا مساعدته على إيجاد الكفاءات المتخصصة للعمل معهم. في مثال توضيحي واحد بالأرقام يظهر أثر العقبات في الإحجام عن تبني برامج المسؤولية الاجتماعية من قبل الشركات.. يُوجد في السعودية قرابة نصف مليون رجل وسيدة أعمال أو أقل قليلاً ولا يوجد سوى أقل من أربعين مؤسسة اجتماعية تنموية؟، ويوجد مئات آلاف السجلات التجارية والشركات الكبرى المساهمة والعائلية والمحدودة والمؤسسات العملاقة.. ولا يُوجد سوى العشرات فقط من الشركات التي أسستْ برامج لخدمة المجتمع.. وذلك يعود بالدرجة الأولى للعقبات المحددة أعلاه. مسؤولية (الجهات الحكومية) تجاه الشركات ورجال الأعمال: نلمس الرغبة الصادقة في وجود شراكة حقيقية وملموسة بين أجهزة الدولة والقطاع الخاص، شراكة تقوم على تقدير كلّ جانب دور الآخر ومسؤولياته، وهو الأمر الذي يؤكده المسؤولون في الدولة مراراً تقديراً لجهود القطاع الخاص ومساهماته على صعيد التنمية، حتى إن وزير الشؤون الاجتماعية أكد دعمه وتشجيعه لإشهار أي جمعية تُسهم في تنمية المجتمع سواء صحياً أو بيئياً أو تعليمياً، وذلك من خلال سرعة الترخيص لها ودعمها بإعانة سنوية. ولا شكّ أن القطاع الحكومي يقوم بدور اجتماعي فاعلٍ وكبير ويتحمّل أعباء لا يمكن تقدير حجمها لضخامتها، ومع ذلك فإنّ الجهات الحكومية يجب أن تُشارك فعلياً في دعم القطاع الخاص وتسهيل مهمته لخدمة المجتمع وذلك على مرحلتين: المرحلة الأولى: إلغاء كلّ ما يمكن إلغاؤه مِن الإجراءات والرسوم الإدارية في سبيل تسريع استخراج التصاريح اللازمة لإطلاق أي مشروع مِن مشاريع المسؤولية الاجتماعية للشركات. المرحلة الثانية: تقديم التسهيلات والمميزات للشركات الخاصة وأصحابها نظير إسهاماتهم في خدمة المجتمع، مثل تسهيلات الاستقدام والتمويل من البنوك وإعطاء فترات السماح من البلديات وغيرها، لدينا "زكاة شرعية" يمكن للجهات المعنية التوجيه ببحث دراسة الحكم الشرعي في صرفها على برامج المسؤولية الاجتماعية بضوابط مقننة، مطلوب من مؤسسات الدولة أن تضع القوانين المحفزة لرجال الأعمال والتي تجعل من عطائهم حافزاً لإنجاح وترويج أنشطتهم التجارية انطلاقاً من كون الشركات والحكومات شركاء في تنمية المجتمع وشركاء في تنمية الأعمال التجارية أيضاً. إننا رغم الاعتراف الرسمي بالدور الاجتماعي المتزايد للشركات وحرص عديد منها على تبني برامج المسؤولية الاجتماعية، إلا أننا مازلنا نشاهد المعوقات التي تحجّم القيام بهذا الدور ومنها الروتين والبيروقراطية، وعدم التعاون في تخصيص الإمكانات المطلوبة مثل الأراضي لإقامة المشاريع الاجتماعية - مستشفى أو حضانة أو مدرسة-، وعدم إعفاء استخراج التراخيص لهذه الأعمال من الرسوم أو التأمينات أو غير ذلك، فضلاً عن عدم وجود حوافز وتسهيلات مُعلنة من الأجهزة التنفيذية لتشجيع مبادرات رجال الأعمال، وعدم وجود نظام متكامل للتصاريح الخاص بالمؤسسات غير الهادفة للربح، والحساسية التي يتم التعامل بها من قبل بعض الجهات الحكومية عند رغبة الشركات في دعمها ومشاركتها. أضف إلى ذلك عدم وجود أي خدمات خاصة تسهل إجراءات التراخيص وتشدد قوانين العمل في سبيل إقامة مشاريع استثمارية عملاقة مستقرة –صناعية وتجارية وعقارية- يمكن من خلالها توظيف أبناء المجتمع والإسهام في المسؤولية الاجتماعية‏. وانعدام ثقة رجال الأعمال بعدد من الأجهزة العامة لعدم توافر الشفافية، مما أدى إلى عدة مشكلات أخرى من أبرزها وجود ضعاف النفوس من أصحاب المصالح الشخصية‏ الذين يتسلطون على أصحاب الأموال المخصصة لخدمة المجتمع فيعطلون معاملاتهم باسم النظام حتى يحققوا ما يريدون. إن هذا المحور يتضح أثره بشكل كبير إذا وضعنا نصب أعيننا أن مُعظم شركات القطاع الخاص تُعدّ متوسطة وصغيرة الحجم، وبالتالي فإنّ مساهمة القطاع الخاص ستبقى محدودة لأن معظم الشركات لم ُتخاطب ولم تهيأ لها الظروف الكافية.. وإذا أراد المجتمع دوراً اجتماعيا أكبر للقطاع الخاص فيجب منحه المزيد من التسهيلات والامتيازات. هل العمل الخيري يقف في مقابل خدمة المجتمع؟ رغم نمو مساهمة القطاع الخاص فيما يتعلق بالدور الاجتماعي إلا أن جهوده تبقى بعيدة عن المعايير المنهجية ذات صفة الديمومة وقريبة من الصفة الخيرية‏، ومعظم الأعمال أقرب للمنح الخيرية تنحصر في أعمال مرتبطة بإطعام الفقراء وتوفير الكسوة لهم وغير ذلك مما تقوم به الجهات الخيرية المتخصصة. لذا نؤكد أن جهود المسؤولية الاجتماعية يجب أنْ تكون أداة مالية، أي أنه يجب على الشركات الاستثمار في المجتمع، ومع المجتمع.. ذلك لأن برامج المسؤولية الاجتماعية يجب أن تكون لها خصوصية الاستدامة التنموية وكذلك التقنين المالي والمحاسبي على أسس استثمارية. في تجربة شخصية.. أحدُ رجال الخير من أبناء كبريات العوائل السعودية ومن العقول الرائدة الذين لهم إسهامات كثيرة في تأسيس الأنشطة التطوعية والخيرية.. أخبرني أنهم نظموا مشروع (صندوق القرض الحسن).. ثمّ لمْ يستطيعوا توفير رأسمال عامل مع أنه سيُعاد إلى المودعين مِن رجال الأعمال أو الشركات خلال فترات محددة إذا لم يتركوه وقفاً، ومِن العجائب.. أنني بعد فترة وقعتُ في خلاف مع أحد رجال الأعمال لأنه يريد مني (شخصياً!) أنْ أدير مبلغاً مالياً مرصوداً من قبل عائلته بشكل مماثل وهو ما اعتذرت عنه تماماً لأسباب كثيرة. وهنا تظهر أهمية الدعوة إلى التعاون والتكامل بين القطاع الخاص والقطاع الخيري والتطوعي.. فالأخير يمكنه أن يقدم الكثير من الأعمال والأفكار والمشاريع والخبرات والكفاءات التي تكونت خلال عقود من العمل المتواصل.. ولا تخفى مصلحة القطاع الخاص في وجود جهات متخصصة ومتفرغة يمكنها التنفيذ والمساعدة في تحقيق أهداف الشركة، مخففة عنها العبء والجهد.. مع التأكيد أيضاً أن ذلك يجب ألا يكون على حساب استمرار برامج ومشاريع القطاع الخيري بشكل ناجح ومستمر. مِن النماذج المتميزة في التكامل المنشود بين العمل الخيري والخاص نموذج إدارة خدمة المجتمع في بنك الجزيرة (برنامج خير الجزيرة لأهل الجزيرة) التي قامت بتمويل عدد من مشاريع الأسر المنتجة في محافظة الأحساء ومنطقة القصيم بالتعاون مع (جمعية فتاة الأحساء الخيرية) و(جمعية الملك عبد العزيز الخيرية النسائية في القصيم)، واعتمدت تدريب 20 فتاة في الغزل والنسيج بالتعاون مع (جمعية ماجد بن عبد العزيز الخيرية في جدة)، إضافة إلى تدريب 120 فتاة في أربعة مجالات (الخياطة المصنعية، واستخدام الكمبيوتر في الأعمال المكتبية للتأهيل الوظيفي، والتجميل والعناية بالشعر، وإعداد وتأهيل النادلات) بالتعاون مع (جمعية النهضة النسائية الخيرية في الرياض)، وتوقيع اتفاقية مع (جمعية العوق البصري الخيرية) لتدريب 74 كفيفاً وكفيفة على الكمبيوتر في منطقة الرياض ومدينة جدة ومدينة بريدة. ومِن النماذج النظرية التي يمكن تخيلها.. قيام شركة ما باختيار جهة خيرية أو تطوعية متخصصة في منطقة ما.. أو نشاط ما.. بحيث تتناسب أعمال الشركة وأعمال هذه الجهة. ويكون هناك نوع من التكامل الاستراتيجي أو ما يسمى (التوأمة).. فتقوم الشركة بالمشاركة في تطوير الجهة ودعمها بالخبرات الإدارية والمعرفية ودعم مشاريعها مادياً.. وتقوم الجهة بمعاونة الشركة على تطوير مشاريع اجتماعية ذات نفع مستدام والمساعدة في تنفيذها ومتابعتها. وهنا يبرز سؤال مهم: هل المؤسسات والجمعيات الخيرية -في معظم مناطق المملكة- مؤهلة إدارياً للقيام بهذا التكامل مع الشركات ورجال الأعمال؟ وللحقيقة.. فإني أعرف وألمسُ أن الجهات الخيرية قطعتْ شوطاً كبيراً نحو العمل المؤسسي، لكن ومع ذلك فلا يزال أمامها أيضاً الكثير لتقوم به، وهذا ما يمكن أنْ يحققه التكامل المنشود والتعاون بين القطاعين الخيري والخاص.. ويُسهمان سوياً في تقديم نماذج مسؤولية اجتماعية من نوع فريد. وأؤكد أن التجربة الخيرية في بلادنا ثرية بفضل الله، وأشيرُ إلى حلقة النقاش (دور الجهات الخيرية في المسؤولية الاجتماعية للشركات) التي قدمتها جمعية التوعية والتأهيل الاجتماعي (واعي) بالتعاون مع المركز الدولي للأبحاث والدراسات (مداد) في جدة، والتي كان من أهم نتائجها أن المؤسسات الخيرية السعودية تمتلك مقومات وإمكانات تؤهلها للشراكة في برامج المسؤولية الاجتماعية مع الشركات، وأنّ المسؤولية الاجتماعية لا تتعارض مع العمل الخيري وليست بديلاً عنه ويجب أن يكمّل كلّ منهما الآخر، وأنّ الشراكة بين المؤسسات الخيرية والشركات في تنفيذ برامج المسؤولية الاجتماعية تتطلب عدداً مِن الأمور منها اعتماد سياسة الجودة والشفافية وإعداد مشاريع مقرونة بدراسات جدوى. يبقى موضوع يفرض نفسه.. بعض الشركات العائلية الكبرى قامت بإنشاء مؤسسات متخصصة كوقف خيري لعائلة معينة أو شخصية محددة مثل (مؤسسة الراجحي الخيرية) و(مؤسسة الشربتلي الخيرية) و(مؤسسة السبيعي الخيرية)، و(مؤسسة الجميح الخيرية).. هذه المؤسسات يعود ريعها لدعم الفئات المحتاجة في المجتمع وتنتشر في جميع أنحاء المملكة وهي من أفضل مشاريع خدمة المجتمع ذات الديمومة والمؤسسية.. والسؤال هو: العوائل التجارية الكبرى التي تملك بنوكاً وشركات استثمارية، وتملك في المقابل مؤسسات خيرية.. هل تكفيها هذه المؤسسات وتعفيها مِن تبني برامج المسؤولية الاجتماعية؟. أما الإجابة فالواقع أنّ هناك فصلاً تاماً داخل هذه العوائل بين الأعمال التجارية ومؤسساتها الخيرية، ويشهد لذلك تبني كثير من هذه العوائل لأعمال اجتماعية -تصنف ضمن خدمة المجتمع - بأسماء العوائل بعيداً عن مؤسساتها الخيرية.. ومن منظور المسؤولية الاجتماعية بمفهومها الشامل فهذه المؤسسات الخيرية لا تغني ولا تقوم مقام برامج المسؤولية الاجتماعية، ولكن في المقابل لاشكّ أنهم يُشكرون جداً على هذه المبادرات الطيبة المباركة.. وهم الأولى والأقرب لتحقيق التكامل بين كياناتهم التجارية ومؤسساتهم الخيرية لتبني برامج خدمة المجتمع وتنفيذها بشكل ناجح. دور وسائل الإعلام تجاه الشركات والمجتمع: ترى الشركات أنها تقوم بدور لا يمكن إنكاره في مجال المسؤولية الاجتماعية، ولكنّ المشكلة في الإعلام الذي يتجاهل هذا الدور لأنه يعدّ الإشادة بالشركات نوعاً من الترويج والتسويق والخدمات غير المجانية.. إلا أن وجهة نظر الشركات أنها جزء من المجتمع، وهي تقدم خدمة ولها الحق في أخذ نصيب من التغطية الإعلامية بحيث يشار إلى إسهامها. في المقابل فإن وسائل الإعلام.. ترى أن الشركات التي تقدم خدمات اجتماعية تأخذ بالفعل نصيبها من الحضور الإعلامي، إلا أنّ هذه الشركات تبقى تغرّد بهذه الخدمة طوال عام كامل.. ويجب أن تكون التغطية الإعلامية للشركات بقدر إسهاماتها الحقيقية المتجددة، فهذا سيدفع الشركات للمزيد، ويشجع بقية شركات القطاع الخاص على الإسهام بدورها. تعود الشركات وترى أنها تقدم خدمات لا حصر لها وبشكل مستمر ودائم.. وأنه من واجب الإعلام البحث عن الشركات التي تخدم المجتمع، بدلاً من أن تبحث الشركات عنه وتخطب ودّه لإبراز جهودها في برامج المسؤولية الاجتماعية. هنا نصل إلى نقاط نقاش عديدة يمكن ألا تنتهي إذا لم نتفق على مبادئ أساسية.. ومن هذه المبادئ أن شركات الإعلام عليها مسؤولية تجاه المجتمع ويمكن أن تؤديه من خلال إبراز النماذج الجيدة للشركات ورجال الأعمال. ومن المبادئ أن عملية البحث عن الحالات وتوثيقها ونشرها وإبراز آثارها هي عملية مشتركة بين الطرفين، أعني الشركات والجهات الإعلامية، وأنه على الشركات أن تبادر لإيصال أخبارها الموثقة وجهودها لوسائل الإعلام، كما أن على وسائل الإعلام أن تفتح أبوابها وتوجّه جهودها لاقتناص هذا النوع من الأخبار وتتبنى نشره في أبهى حلة إعلامية.. ولأن منابر الإعلام هي منابر للوعي ونشر الفكر المعاصر فإنها يجب أن تتبنى ما يستجدّ من مفاهيم مثل (المسؤولية الاجتماعية)، وإلا فكيف سيتداول المجتمع هذه المفاهيم حتى تتغلغل في عمقه الثقافي وممارساته الحياتية؟. ناهيك عن كون الإعلام هو الصوت القادر على نشر ثقافة المسؤولية الاجتماعية للشركات، فهلْ وسائل إعلامنا بالفعل تقوم بدور حقيقي يتناسب وقوة سلطتها الاجتماعية والثقافية وقوّة تأثيرها في الرأي العام وتشكيله؟ بالنظر إلى مؤسسات الإعلام باعتبارها مؤسسات خاصة فإنّ لديها فرصة كبرى لتبني مشاريع نوعية مِن منطلق المسؤولية الاجتماعية بالتوازن مع أهدافها الربحية، نحن بحاجة إلى إعلام يبادر للطرح الإيجابي في موضوع المسؤولية الاجتماعية ويتبنى مبادرات نوعية مثل مبادرة جائزة "الاقتصادية" لأفضل بيئة عمل ورعايتها الدائمة لعديد من المؤتمرات النوعية المحلية والإقليمية. يمكن لوسائل الإعلام تبني مبادرات نوعية تخدم هذا التوجه وتذكيه لدى شرائح المجتمع كافة. كأن تتبنى تغطية سنوية مُكثفة للشركات التي تُسهم في برامج المسؤولية الاجتماعية، وهذا بحدّ ذاته حافز مهم لشركات القطاع الخاص للتفاعل بشكل أكبر وإبراز جهودها مع برامج الخدمة الاجتماعية. ومثل أن تتبنى الصحفُ ملاحق شهرية لتعلن عن المناسبات المتخصصة المختلفة المرتبطة بهذا المجال، ولعرض النماذج والأفكار واستقطاب المتخصصين مِن الكتاب والمستشارين والممارسين لهذه الأعمال، وأنا متأكد أنّ كثيراً منهم سيرحب بالمشاركة في هذه الملاحق، كما نأمل أن تبادر جهة إعلامية لمشروعٍ نوعي مثل جمع المادة العلمية الناتجة من المؤتمرات والتجارب المحلية الناجحة للشركات وإصدارها في كتاب أو سلسلة من الكتب ونشرها على الإنترنت. كيف يتحمّل أفراد المجتمع مسؤوليتهم تجاه الشركات؟ إذا قامت الشركات بدورها تجاه المجتمع بالشكل الصحيح.. فإنها لن تُفاجأ بظهور شريحة من الأفراد الذين يتحملون مسؤوليتهم أيضاً تجاه المجتمع وتجاه الشركات نفسها.. وأعتقد أن هناك كثيراً من الصور المتاحة التي يظهر فيها هذا السلوك.. فالأفراد يعيشون ويعملون في كلّ موقع ومكان.. ومَن حَمل هذا الفكر (المسؤولية تجاه الشركات باعتباره عضواً في المجتمع المستفيد) سيتمكن من إيجاد عشرات الوسائل التي في استطاعته التفاعل معها لتحقيق هذا الهدف.. وسأكتفي هنا بذكر النماذج التالية: النموذج الأول: ستجد عديداً من الأفراد الذين يبادرون بتقديم الأفكار والمقترحات التي يتوقعون أن الشركة تستطيع أن تتبناها لخدمة فئة معينة ضمن تخصصها وأهدافها، وهنا نوضح للأفراد بأنه كلما كانت المعلومات مكتملة ناضجة وموجّهة إلى الجهة والمسؤول الصحيح كان ذلك أدعى لتنفيذ الفكرة. النموذج الثاني: مساعدة الشركة على تقييم خدماتها أو التنبيه على أي ملحوظات تؤثر سلباً في منتجاتها في السوق، وتخيل أثر ذلك في مقابل حملات المقاطعة التي تتمّ لسبب أو لآخر. النموذج الثالث: المشاركة التطوعية العلمية أو العملية في نشاطات الشركة تجاه المجتمع.. النموذج الرابع: ابتكار وتأسيس مشاريع ثمّ الارتباط بالشركات لتحقيق فوائد أكبر وإليك هذا المثال: طالبتان من جامعة الملك سعود قامتا بتأسيس مجموعة أطلقتا عليها اسم (مفاتيح الخير) تهدف لخدمة المجتمع، وقد انضمّ إلى المجموعة أكثر من 50 من الطالبات وقُمن بالمشاركة في أنشطة المجموعة وهي دعم الأيتام والمعاقين والفقراء، والتبرع بالدم، ومكافحة التدخين، وتحسين صورة الشباب والفتيات في المجتمع. مشاريع وأفكار مقترحة تنتظر القطاع الخاص ضمن برامج المسؤولية الاجتماعية: هناك كثير من برامج وأفكار المشاريع المتكررة والمبتكرة التي يمكن أن تتبناها الشركات ورجال الأعمال ضمن مفهوم المسؤولية الاجتماعية.. أضع هنا بعضاً منها ويمكن التواصل لاحقاً للحصول على مزيد من التفاصيل: تقديم الأفكار والخبرات المتخصصة في الاستثمار للجهات غير الربحية التي تتطلب تنمية مواردها المالية لتفعلها في مشاريع تنموية، ومن أكبر الأمثلة التي أستحضرها ما صرّح به وزير الشؤون الاجتماعية مِن أنّ وزارته لا تواجه نقصاً في الأموال، وإنما في توافرها من دون وجود الأفكار التي تُنفق عليها هذه الأموال.. ألا يمكن أن يكون دور بعض الشركات الاستثمارية مشاركة الوزارة في تطوير أفكار ودراسات وإدارة مشاريع تحقّق أهدافها الربحية والتنموية للوزارة؟!.. ولعلّ هناك نموذجاً في إبرام جمعية الأطفال المعوقين اتفاقية لتنمية مواردها مع شركة صافولا. تبني ابتعاث المختصين من الأفراد والمؤسسات غير الربحية لحضور مؤتمرات عملية ودورات في تخصصهم، أذكر أن إحدى الجهات المتخصصة في نشر ثقافة الجودة لمْ تستطعْ تمويل رحلة علمية ذات قيمة كبيرة إلى اليابان مع أهميتها الكبرى للمجتمع ككل. تهيئة قاعة أو مقر لعقد لقاءات دورية بين المتخصصين في مجالات التقنية أو الهندسة أو الإدارة أو الأعمال في المنطقة.. شخصياً أعرف أكثر من مجموعة أعمال ناشطة كانت إلى فترة قريبة تجد صعوبة في توفير ميزانية مقر لعقد لقاءاتها التنسيقية الدورية!!. الإسهام في التبني والتعريف بالخدمات المتميزة التي تقدمها الجمعيات التطوعية وتحتاج إليها شريحة كبيرة من المجتمع لكنها لا تعرف عنْ وجود هذه الخدمات!! مثل أنشطة تأهيل ومساعدة المقبلين على الزواج، أو الإصلاح بين المختلفين بعيداً عن المحاكم، أو جمع وتوزيع فائض الأطعمة على المحتاجين.. فهذه مِن المجالات التي يمكن للشركات الخاصة تبني التعريف بها ضمن إطار مسؤوليتها الاجتماعية.. ولوْ بالتعريف داخل دائرة موظفيها وعملائها فقط. إعداد ورعاية البرامج الإعلامية الهادفة والمواد العلمية النافعة: مثل إعداد وتوزيع أشرطة كاسيت وسي دي للسيارات في موضوع اجتماعي، ومن خلال حملات رسائل الجوال أو البريد الإلكتروني لنشر مفاهيم معينة أو مساعدة جهة تقدّم خدمة للمجتمع في الترويج لنشاطها، أو تطوير وإعداد ورعاية برنامج تلفزيوني ثقافي يخاطب مئات الآلاف.. وأعرفُ شخصياً من لديهم برامج إعلامية رائدة جداً وما زالوا يبحثون عن شركات تدعمهم!!.. تأسيس مشاريع إنتاجية منزلية (يمكن العمل على إنتاج بعض متطلبات الشركة نفسها)، على أن تتولى الشركة شراء المنتجات أو تتبنى عرضها وبيعها من خلال معارضها وموقعها، وذلك بكلّ تأكيد يُسهم في تحقيق كثير من الأهداف التنموية، تخيلْ فقط أثر وجود قسمٍ لعرضِ وبيعِ المنتجات النسائية المنزلية في كلّ سلسلة سوبر ماركت أو سلاسل المكتبات والقرطاسية أو الأسواق والمراكز التجارية.. وِفق آلية تضمن الحقّ والربح للجميع؟؟ كم عدد الأسر التي ستنتج وتزيد دخلها؟ وكم سيرتفع حجم الإنتاج المحلي؟ وكمْ ستزيد مبيعات هذه الشركات والمكتبات والمراكز؟ في المناسبات المختلفة (عيد، آخر الأسبوع، وفوز الفرق الرياضية..إلخ) يحتاج الشباب إلى أماكن تجمّع بمواصفات وخدمات فلا يجدونها.. ويمكن التصدي لذلك بأفكار إبداعية مِن قبل الشركات، بحيث توفر مراكز شبابية للترفيه والتعليم والإنتاج.. أو التكامل مع مراكز الشباب القائمة والأندية القائمة لتحويلها إلى مراكز تنموية واجتماعية. مشروع مكتبات المستشفيات التي تُوضع تحت تصرف الأطفال المرضى بهدف تثقيفهم وتسليتهم. دعم ورعاية تنمية التقارب بين فئات معينة، أو تقوية التعارف وتبادل الخبرات بين أصحاب المهن والأنشطة المختلفة في منطقة ما.. من خلال تيسير استخدامهم لقاعات ومرافق الشركة بشكل نظامي. إنشاء دور خاصة لدعم العملية التربوية والتعليمية لذوي الظروف الخاصة وصعوبات التعلم، ومن الأمثلة البارزة تعليم وتأهيل المعوقين مِن الجنسين ممن تزيد أعمارهم على 12 عاماً في مناطق المملكة كافة. تجهيز قافلة للتجوّل في المناطق التي تتطلب بثّ الوعي الصحي والديني والتعليمي. المؤسسات الخاصة صغيرة الحجم لديها كثير لتقدمه للمجتمع: قام أحد مكاتب العقار بإلغاء قيمة العمولة عن الوحدات العقارية التي تُسوّق وتباع إلى ذوي الاحتياجات الخاصة والمطلقات والأيتام، تسهيلاً ومعاونة لهم على تحقيق الاستقرار.. فهل يصعب على أي مؤسسة صغيرة أن تمارس دوراً اجتماعياً تنموياً إذا أرادتْ ذلك؟!.. أحبّ أن أضع هنا جملة من الأفكار والنماذج التي يمكن تطبيقها على مستوى المؤسسات صغيرة الحجم مشاركة منها في خدمة المجتمع: تبني طالب واحد أو أكثر لتنميته وابتعاثه دراسياً ورعاية مواهبه وإبداعاته وزيادة معرفته وخبراته. مساعدة أسرة فقيرة واحدة على الأقل في التحوّل إلى أسرة منتجة بحيث يمكنها زيادة دخلها وتنمية مواردها ذاتياً. توظيف شخص واحد على الأقل من ذوي الاحتياجات الخاصة، أو مساعدته لمواصلة تعليمه. تهيئة مكان اجتماعات دورية لسكان المنطقة ووجهائها والمتخصصين وغيرهم ممن يهتمون بمصالح المجتمع. تنسيق اجتماعات لتبادل الخبرات والتعاون بين منسوبي المؤسسة وبين منسوبي مؤسسات أخرى اجتماعية أو خيرية. المساعدة على تقديم معلومات للأبحاث والدراسات والمشاركة في نشرها وتنظيمها من خلال منسوبي المؤسسة. تبني دعم وكتابة ونشر المقالات ذات الصبغة المعرفية والمتخصصة، والإسهام في النشر العلمي والترجمة للتجارب والخبرات وغيرها مما يهتم به شريحة من المجتمع. تبني برامج تدريب وتطوير العاملين في المؤسسة ذاتها.. وتبني بعض برامج الترفيه لهم ولعائلاتهم. نموذج لبعض المشروعات التنموية المطلوبة في منطقة المدينة المنورة: لقد اخترت المدينة المنورة كنموذج فقط، ونلاحظ أنه رغم مكانتها الدينية العظيمة، ورغم الاهتمام الكبير من الدولة بتنميتها، ورغم تعدادها السكاني الذي يزيد على المليون ونصف المليون نسمة يمثل الشباب منهم 60 في المائة تقريباً، ورغم وجود عدد من المشاريع العملاقة جداً والتي استقطبتْ كبار المستثمرين، ورغم وجود عدد من الشركات المساهمة والجمعيات الخيرية.. رغم كلّ ذلك فهناك احتياجات تنموية أساسية تتطلب حراكاً عاجلاً من القطاع الخاص وسأتطرق لبعض الأمثلة بلا تفاصيل: قرى وهجر المدينة المنورة: إحدى القرى التي يقطن فيها أكثر من ستة آلاف شخص لم يتذوقْ أهلها المياه الخارجة من محطة للتحلية إلا منذ أيام بعد أن تمّ جمع تكلفتها بقيمة 370,000 ريال من خلال التبرعات، ويمكن التواصل مع مسؤول القرى في المستودع الخيري في المدينة المنورة للاطلاع على كثير من المشاريع التنموية التي لا يمكنهم القيام بها بعيداً عن التعاون من الجهات الحكومية والدعم من القطاع الخاص. الجهات الخيرية في أفضل بقاع الأرض (المدينة المنورة) تعاني نقصاً حادّاً في الكوادر الإدارية المؤهلة للعمل وخاصة في مجال السكرتارية والإدارة التنفيذية.. ولذا فهم بحاجة ماسة لمشروع تنموي من خلال شركة خاصّة لتدريب وتأهيل عدد كافٍ من المواطنين مِن خلال دبلوم مُعتمد أوْ تقديم دورات مكثفة لتلبية هذا الاحتياج. توجد مراكز وجهود -خاصّة احترافية- غير كافية لتوعية الخريجين والخريجات وتثقيفهم وتوجيههم نحو سوق العمل.. رغم وجود نسبة بطالة –مرتفعة نسبياً- مع محدودية عدد الشركات، وعدم وجود معرفة بأخلاقيات العمل وأدبيات العمل الحر.. ونحن ندرك طبيعة سوق المدينة المنورة التي تستقطب مواسم الحجّ والعمرة والزوار على مدار العام مما يجعلها مرتعاً خصباً لفرص العمل الخاص والمشاريع الصغيرة. لا يوجد مركز لعلاج المدمنين على المخدرات وإعادة تأهيل المقلعين عنها والتائبين منها، وتبني حملات الوقاية ونشر الوعي للتحذير منها.. رغم ارتفاع حالات الشكوى من تزايد ظاهرة وقوع الشباب في التدخين والمخدرات. فصول وظروف ذوي الاحتياجات الخاصّة والمعوقين تحتاج إلى تطوير ودعم كبير بالكوادر والوسائل التعليمية، ومثل ذلك مركز صعوبات التعلم.. وبشكل عام فجودة التعليم للمعوقين منخفضة بشكلٍ كبير ولا يكاد المعوّق يتعلم شيئاً حقيقياً.. فضلاً عن عدم توافر الفرص الوظيفية بعد التخرج.. وبطبيعة الحال فإنّ القطاع الحكومي والخيري لن يمكنه تقديم أفضل مِن الموجود في ظلّ كثرة أعبائه ومحدودية كفاءاته وميزانياته.
إنشرها