Author

كيف فاقم بوش الأزمة بتدخله العشوائي وخطته المثقوبة؟

|
حين انفجرت الفقاعات المالية أدى الانكماش الائتماني الناتج عن ذلك إلى التسييل القسري للأصول، والانكماش، وقد يبلغ تدمير الثروات الناجم عن ذلك أبعاداً مفجعة. وفي هذه البيئة الانكماشية فقد يؤدي ثِـقَل الديون المتراكمة إلى إغراق النظام المصرفي ودفع الاقتصاد إلى الكساد. وهذا ما يتعين علينا أن نمنعه بأي ثمن. من بين الطرق المقترحة لتحقيق هذه الغاية توفير المال للتعويض عن انكماش الائتمان، وإعادة تمويل النظام المصرفي، وإلغاء أو تخفيف الديون المتراكمة على نحو منظم. ولتحقيق أفضل النتائج فلا بد من الجمع بين هذه العمليات الثلاث، وهو ما يتطلب اتخاذ تدابير سياسية متطرفة وغير تقليدية. وفي حالة نجاح هذه التدابير وعودة الائتمان إلى التوسع، فسيحل شبح التضخم في محل الضغوط الانكماشية، وسيكون لزاماً على السلطات أن تسحب المدد الفائض من الأموال من الاقتصاد بالسرعة نفسها، التي ضخت بها ذلك المدد إليه. ومن بين هاتين العمليتين، فمن المرجح أن تكون الثانية أصعب من الأولى، على المستويين التقني والسياسي، ولكن البديل ـ الكساد العالمي والفوضى ـ ليس بالبديل المقبول. وليس هناك من السبل ما قد يسمح لنا بمنع موقف أبعد ما يكون عن التوازن ـ الانكماش والكساد على مستوى العالم ـ إلا بالعمل على حَث نقيض ذلك الموقف ثم الحد منه. الواقع أن حجم المشكلة أضخم حتى من أزمة ثلاثينيات القرن العشرين، ولا شك أن استجابة إدارة بوش العشوائية والتعسفية أدت إلى تفاقم الموقف فتعرضت جماهير الناس ومجتمع الأعمال لصدمة شديدة في أعقاب عجز "ليمان براذرز" عن السداد، وسقط الاقتصاد من أعلى الهاوية. ولسوف يُـظهِر الربعان المقبلان من هذا العام تدهوراً سريعاً. وما يحدث في الولايات المتحدة سيستمر في ترك أثر عميق في الاقتصاد العالمي. ولمنع تفاقم الأمور سوءاً، يتعين على إدارة الرئيس باراك أوباما أن تتبنى خطة سياسية جذرية شاملة، ولا بد أن تشتمل هذه الخطة على خمسة عناصر رئيسية: ـ توفير الحافز المالي. ـ إصلاح نظام الرهن العقاري. ـ إعادة تمويل البنوك. ـ تبني سياسة إبداعية في التعامل مع قضية الطاقة. ـ إصلاح النظام المالي الدولي. لقد قطع برنامج التحفيز المالي شوطاً طويلاً بالفعل، لكن تنفيذه سيستغرق وقتاً طويلاً ولن يخدم إلا كوسيلة لتخفيف دورة الانحدار. وفي اعتقادي أن إصلاح نظام الرهن العقاري وإعادة تمويل البنوك من بين الأمور التي لا يمكن الاستغناء عنها لتحويل اتجاه الاقتصاد. حد أدنى لأسعار المساكن إن الهدف من إصلاح نظام الرهن العقاري يتلخص في تفادي هبوط أسعار المساكن إلى حد مفرط، وذلك بالحد من عمليات حبس الرهن قدر الإمكان وتقديم الحوافز للمشترين. وهذا ضروري من أجل تقليص الضغوط الانكماشية، وإعادة الاستقرار إلى ميزانيات البنوك، وتشجيعها على استئناف الإقراض. ويتحقق هذا الهدف على أفضل نحو من خلال تعديل قروض الرهن العقاري بحيث لا يتجاوز مبلغ القرض الأساسي القيمة الحقيقية للمسكن. الآن يحتدم النقاش حول ما إذا كان ينبغي لمثل هذه التعديلات أن تتم على نحو تدريجي طوعي وأن توجه نحو المقترضين المتأخرين عن السداد، أو أن تتم بصورة شاملة وأن تُـفرَض على الجهات المقرضة التي لا توافق على التعديلات. الواقع أنني أؤيد التوجه الشامل، ذلك لأن التعديلات التدريجية ليس من الممكن أن تصل إلى عدد كاف من الأسر للحد من عمليات حبس الرهن بصورة ملموسة، فضلاً عن ذلك فإن أصحاب الشرائح الدنيا من التزامات الدين الجانبية ليس لديهم من الأسباب ما يحملهم على الموافقة الطوعية على التعديلات، ذلك لأنهم قد يتعرضون للخراب بسببها. من بين المزايا الإضافية لهذا التوجه أنه من شأنه أن يسمح بالإصلاح الشامل لنظام الرهن العقاري في الولايات المتحدة، الذي ثبت بالدليل القاطع أنه قاصر إلى حد كبير. وأنا أؤيد تبني النظام المتبع في الدنمارك، مع إدخال التعديلات المناسبة، وهو النظام الذي أثبت جدارته منذ العمل به لأول مرة بعد هدم وتخريب كوبنهاجن في عام 1793 فعلى النقيض من اعتماد أمريكا على الكيانات التي ترعاها الحكومة ـ وبالتحديد فاني ماي وفريدي ماك ـ تستخدم الدنمارك نظاماً مفتوحاً، حيث يشارك كل منشئي الرهن العقاري على قدم المساواة ويعملون من دون ضمانات حكومية. إن السمة المميزة لسندات الرهن العقاري الدنماركية هي أنها متطابقة مع قروض الرهن العقاري الأساسية وقابلة للتبادل معها. ويستطيع أصحاب المنازل فك الرهن في أي وقت بشراء سندات الرهن العقاري المعادلة في السوق وإبدالها بالرهن العقاري. وبما أن أسعار الفائدة وأسعار المساكن تتحرك عادة في الاتجاه نفسه، فإن هذه السمة ـ التي يطلق عليها مبدأ التوازن POB ـ من شأنها أن تحد من المجازفة المتمثلة في تحول القيمة الصافية للعقار إلى قيمة سلبية. وهناك يخضع منشئو قروض الرهن العقاري للتنظيم الصارم ويتحملون المجازفة المرتبطة بالائتمان، ولهذا السبب يتم تقدير السندات عادة بأسعار مرتفعة على الرغم من غياب الضمانات الرسمية، وكثيراً ما يكون عائدها أقل من عائد السندات الحكومية. من المفترض أن تعمل خطة تعديل الرهن العقاري الشاملة على إحلال عقود رهن عقاري جديدة، استناداً إلى مبدأ التوازن، في محل عقود الرهن العقاري التي تمر بموقف عصيب الآن طبقاً لنموذج التقييم الآلي. ومن المفترض أن يتم تخفيض مبلغ القرض الأساسي حتى يتماشى مع قيمة السوق الحالية على النحو الذي يحدده نموذج التقييم الآلي، مع تحمل الجهات المقرضة لقدرا معقولا من الخسارة (وقدرا أكبر بالنسبة لقروض الرهن العقاري الثانوي). وتتمتع قروض الرهن العقاري الجديدة القائمة على مبدأ التوازن بالضمان من قِبَل وكالة حكومية، ما يعزز من قيمتها. وتتقاضى الوكالة رسوماً مناسبة للتأمين. وحرصاً على المساواة فإن المساكن التي تمتعت بتخفيض الرهن العقاري ستكون خاضعة لشريحة ضريبية أعلى إذا تحقق عنها أي مكاسب رأسمالية. ولمنع حالات الغش فإن هذا الالتزام سوف يظل سارياً في عقد المسكن باعتباره حقاً للحجز عليه. وهذا من شأنه أن يهدئ من روع أصحاب المساكن الذين يستفيدون من الخطة ولكن على نحو غير مباشر من خلال استقرار أسعار المساكن. وبموجب هذه الخطة سوف يخسر أصحاب عقود الرهن العقاري المعدلة بعض المال، ولكن ربما تكون الخسارة أقل كثيراً مما قد يخسرونه من دون خطة التعديل. من جهة أخرى فإن الوكالات الحكومية، التي ستنشأ عن اندماج الكيانات التي ترعاها الحكومة، لن تشتري أو تبيع عقود الرهن العقاري؛ بل إنها بدلاً من ذلك ستؤجر إدارتها محافظ استثمارها لفِرَق متخصصة يمكن مكافأتها عن تقليصها الخسائر من خلال تعديل الأقساط تبعاً لقدرة أصحاب المساكن على الدفع بدلاً من حبس الرهن. ومن الممكن أن تتم هذه العملية بقدر عظيم من السهولة من خلال سن قانون جديد للإفلاس ينطبق أيضاً على المساكن الرئيسية. وهذا من شأنه أن يسمح بالتعجيل بإجراءات الإفلاس التي تُـفصِّل الأقساط تبعاً لقدرة أصحاب المساكن على الدفع، ومن شأنه أيضاً أن يحل مشكلة الرهن العقاري الثانوي التي قد لا يصلح معها أي حل آخر. إن تنفيذ هذه التدابير في الوقت نفسه ـ منع تحول مبلغ القرض الأساسي إلى قيمة سلبية بالنسبة لكل عقود الرهن العقاري وتفصيل الأقساط تبعاً لمقدرة أصحاب المساكن على تسديد الأقساط المتأخرة ـ من شأنه أن يؤدي إلى تخفيف، ولكن ليس القضاء على، الضغوط التي تدفع أسعار المساكن نحو الهبوط بسبب حبس الرهن، وذلك لأن الإغاثة سوف تقتصر على المساكن الرئيسة. أما أسعار الفائدة بالنسبة للمشترين الجدد فسوف تكون مدعومة في البداية من خلال بيع سندات حكومية طويلة الأجل وإتاحة الأموال لمصدري سندات الرهن العقاري، ولكن مصدري السندات سوف يظلون مدينين للوكالة الحكومية عن أول 10 في المائة من مخاطر الائتمان. وسيتقاضى المصدرون رسماً يتم تحديده تبعاً للمنافسة في السوق، نظير تحمل مخاطر الائتمان. وحتى مع ذلك فإن أسعار الفائدة بالنسبة للمشترين الجدد لا بد أن تكون أقل من 5 في المائة. ويستطيع مصدرو السندات إعادة تمويل سندات الرهن العقاري لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي ومن دون خسارة. وفي النهاية يتم تخفيض الدعم تدريجياً وتؤول عملية تحديد أسعار الفائدة للسوق. ستستوعب الوكالة الحكومية الخسائر الناشئة عن إجراءات الإفلاس، التي ستكون أقل كثيراً من تلك الخسائر الناتجة عن حبس الرهن. أما حوافظ الكيانات التي ترعاها الحكومة، التي لم تصادف النجاح فسوف يتم تسييلها بالتدريج واستيعاب خسائرها المتراكمة في الدين الوطني. في النهاية، وبعد استقرار سوق الإسكان وترسيخ عقود الرهن العقاري القائمة على مبدأ التوازن فإن وظيفة ضمان الرهن العقاري قد تصبح غير ضرورية وبالتالي يصبح من الممكن حل الوكالة. الأموال في البنك إن أي خطة لإعادة تمويل البنوك لا بد أن تشمل النظام بالكامل وأن تكون إلزامية، لا عشوائية أو تطوعية، كما كانت في عهد وزير خزانة الولايات المتحدة هنري بولسون. وبعد إعادة التمويل فإن الحد الأدنى من متطلبات رأس المال من الممكن أن ينخفض، ولنقل إلى 6 في المائة، وهذا من شأنه أن يشجع البنوك على الإقراض. وستكون البنوك حريصة على الاستفادة من الهوامش السخية السائدة حالياً. وبهذا يتم تنشيط الاقتصاد من جديد. ومع استحواذ الجميع على قدر ضخم من السيولة وحرصهم الفجائي على تشغيل هذه السيولة، فلسوف يحدث اندفاع فجائي نحو شراء الأصول الأقل سيولة. وعند هذه النقطة يبدأ شبح التضخم في الظهور، فيزاد الحد الأدنى لمتطلبات رأس المال إلى 8 في المائة، ثم أعلى، وهذا من شأنه أن يحد من استخدام الروافع المالية في النظام المصرفي، وهو من الأهداف المرغوبة في الأمد البعيد. لو تم تنفيذ خطة الإنقاذ التي تبنتها الولايات المتحدة على هذا النحو منذ البداية، لكان من الممكن إعادة تمويل النظام المصرفي باستخدام الـ 700 مليار دولار التي تم تخصيصها، أو ربما بأقل من ذلك. ولكن مما يدعو للأسف أن نصف هذا المبلغ تم إنفاقه بالفعل، كما تدهورت الأمور إلى حد كبير. وما كان من الممكن تنفيذه منذ شهرين لم يعد واقعياً الآن. وهذه هي السمة المميزة للأزمة المالية وغير ذلك من الظروف البعيدة كل البعد عن التوازن: فما يصلح في مرحلة ما من الوقت لا يظل صالحاً لفترة طويلة. إن القيمة الكاملة لتمويل السوق النظام المصرفي الآن لا تزيد كثيراً على تريليون دولار، وقد تكون الفجوة في موازنات البنوك أضخم. وفي ظل هذه الظروف لا يستطيع المرء أن يعول على استعداد الجمهور للاكتتاب في أسهم البنوك المعرضة للسقوط تحت سيطرة الحكومة. وفي هذه الحالات يتعين على الحكومة أن تلجأ إلى صيغة البنوك الجيدة/ البنوك السيئة: الأصول الضعيفة، وقيمة رأس المال المصدر، ولا بد أن تظل الديون التابعة في البنوك السيئة، ولا بد أن يتدفق ضخ رؤوس الأموال الجديدة إلى البنوك الجيدة. سيخسر حملة الأسهم وحملة الديون التابعة كثيرا من أموالهم أو كل أموالهم، باستثناء الحق في الاكتتاب في البنك الجيد. ومن الممكن ممارسة هذه الحقوق بعد ذلك، وبهذا فقد لا تخضع البنوك الجيدة لسيطرة الحكومة. كما سيتعين على دافعي الضرائب أن يستوعبوا الخسائر المفرطة من جانب البنوك السيئة. وحتى مع ذلك فإن النظام المصرفي يحتاج إلى إعادة التمويل من أجل إنقاذ الاقتصاد. قد تتجاوز التكاليف الآن تريليون دولار، ولكن هذا أفضل من السماح لثِـقَل الديون المتراكمة بإغراق الاقتصاد. #2# الوقود الذكي إن سياسة الطاقة قادرة على الاضطلاع بدور أعظم إبداعاً في مواجهة كل من الركود والانكماش. لم يعد بوسع المستهلك الأمريكي أن يعمل كمحرك للاقتصاد العالمي. والأمر يحتاج إلى محرك جديد. وهنا قد تخدم الطاقة البديلة مع ترشيد استهلاك الطاقة كمحرك، ولكن هذا لن يتم إلا إذا ظلت أسعار الوقود التقليدي مرتفعة بالدرجة الكافية لتبرير الاستثمار فيها. وهذا الاستثمار من شأنه أيضاً أن يساعد في تخفيف انكماش الأسعار. ولكن حتى الآن لم يتجرأ أي من الساسة في الولايات المتحدة على محاولة إقناع جماهير الناس بالحاجة إلى الأسعار المرتفعة لأنواع الوقود التقليدية. سيحتاج الرئيس أوباما إلى قدر عظيم من الشجاعة والبراعة للقيام بالتصرف السليم. وهذا سوف يشتمل على وضع حد أدنى لأسعار الوقود الأحفوري من خلال فرض ضريبة على الكربون أو بيع تراخيص التلوث بالمزاد. والأمر الأول قد يكون أكثر كفاءة، أما الأخير فإنه أكثر واقعية على المستوى السياسي. سيتطلب الأمر أيضاً فرض رسوم على الواردات من النفط من أجل الإبقاء على سعر النفط الداخلي فوق مستوى 70 دولاراً للبرميل على سبيل المثال. ومن الضروري أن يقتنع عامة الناس بأن تكاليف الطاقة ستظل مرتفعة على الدوام من أجل تشجيع الاستثمار في الطاقة البديلة ومبتكرات ادخار الطاقة. في النهاية، قد تنحدر تكاليف الطاقة مع نشر التقنيات الجديدة. ولكن آلية السعر لا تكفي في حد ذاتها لضمان إنتاج تقنيات جديدة. فالأمر يحتاج أيضاً إلى الامتيازات الضريبية، والدعم، ووضع معايير خاصة بالانبعاثات الناتجة عن السيارات، ووضع قوانين جديدة للبناء. وحتى مع كل هذا فلن يتسنى لنا تحقيق أمن الطاقة أو السيطرة على الانحباس الحراري العالمي دون تحديد سعر للانبعاثات الكربونية. ولا تستطيع الولايات المتحدة أن تفعل ذلك وحدها؛ ولكن الأمر لن يتم دون اضطلاع الولايات المتحدة بدور ريادي فيه. إعادة التوازن بين المركزي والمحيطي إن النظام المالي الدولي بالصورة التي تطور إليها منذ ثمانينيات القرن العشرين كان خاضعاً لهيمنة الولايات المتحدة وما يطلق عليه "إجماع واشنطن". وبعيداً عن توفير الفرص المتكافئة، فقد تحيز ذلك الإجماع للدول التي تسيطر على المؤسسات المالية الدولية، وأبرزها الولايات المتحدة، على حساب البلدان الواقعة على المحيط الخارجي للاقتصاد العالمي. وكانت البلدان الواقعة على المحيط الخارجي خاضعة لضوابط السوق التي أملاها إجماع واشنطن، الأمر الذي جعلها عُـرضة لسلسلة من الأزمات المالية، في حين كانت الولايات المتحدة معفاة من الالتزام بهذه الضوابط، فامتصت المدخرات العالمية للحفاظ على عجز متزايد بلا انقطاع في حسابها الجاري. ربما كان هذا الوضع ليستمر إلى ما لا نهاية، وذلك لأن استعداد أمريكا لتحمل عجز خارجي مزمن كان يقابله استعداد غيرها من البلدان لجمع فوائض مزمنة. ولقد أدت الأزمة الحالية إلى إنهاء هذا الوضع وكشفت عن مدى الظلم الذي يشتمل عليه هذا النظام، لأن الأزمة نشأت في الولايات المتحدة ولكنها تلحق ضرراً أشد بالبلدان الواقعة على المحيط الخارجي للاقتصاد العالمي. إن الضرر الذي لحق بالبلدان المحيطية يشكل تطوراً حديثاً جاء في أعقاب إفلاس "ليمان براذرز"، والمغزى الحقيقي منه لم يتم إدراكه بشكل كامل حتى الآن. فقد تمكنت بلدان المركز من توفير الضمانات الفعلية للودائع في بنوكها، ولكن الدول المحيطية لا تستطيع أن تقدم للمستثمرين ضمانات على القدر نفسه من الإقناع. ونتيجة لهذا فقد فر رأس المال من البلدان المحيطية، وبات من الصعب تجديد القروض الناضجة، وأصبحت الصادرات تعاني الافتقار إلى التمويل. وهذا يجعل مستقبل المؤسسات المالية الدولية معتمداً على مدى نجاحها في التأقلم مع المهمة الجديدة: التي تتلخص في وقاية البلدان المحيطية من العاصفة التي نشأت في المركز، وبالتحديد في الولايات المتحدة. والأمر يتطلب قدراً كبيراً من المساعدة لحماية الأنظمة المالية في البلدان المحيطية، بما في ذلك تمويل التجارة، وتمكين حكومات تلك الدول من تبني السياسات المالية المعاكسة للدورة الاقتصادية. يتطلب الأمر الأول توفير أرصدة ضخمة مخصصة للطوارئ في غضون مهلة قصيرة ولفترات قصيرة نسبياً من الزمن. أما الأمر الثاني فيتطلب التمويل طويل الأجل. ولكن الحقيقة أن الـ 200 مليار دولار من الأموال غير المرتبطة التي يحتفظ بها صندوق النقد الدولي تحت تصرفه ليست كافية على الإطلاق لتقديم أي قدر حقيقي من المساعدة، نظراً لحجم الاحتياجات المحتملة. ما الذي ينبغي أن يتم إذن؟ إن أبسط الحلول يتلخص في توفير مزيد من الأموال. والآلية الخاصة بإصدار حقوق السحب الخاصة موجودة بالفعل. ولا يتطلب تفعيل هذه الآلية أكثر من موافقة 85 في المائة من أعضاء صندوق النقد الدولي. في الماضي كانت الولايات المتحدة تشكل معقلاً لمعارضة هذه الآلية. ولكن توفير الأموال الإضافية يشكل الاستجابة السليمة لانهيار الائتمان. وهذا هو ما تفعله الولايات المتحدة في الداخل، فما الذي يمنعها من تنفيذه على المستوى الدولي؟ من عجيب المفارقات هنا أن حقوق السحب الخاصة لن تفيد كثيراً في توفير السيولة على المدى القصير، ولكنها قد تكون مفيدة للغاية في تمكين البلدان المحيطية من تبني السياسات المالية المعاكسة للدورة الاقتصادية إذا ما تبرعت البلدان الغنية بمخصصاتها للبلدان الفقيرة. ولو تم تنفيذها على نطاق واسع ـ ولنقل تريليون دولار ـ فإن خطة حقوق السحب الخاصة قد تشكل إسهاماً كبيراً في مكافحة الركود وتلبية الأهداف الإنمائية للألفية كما حددتها الأمم المتحدة. وهذا التصرف غير الأناني من جانب البلدان الغنية من شأنه في الحقيقة أن يخدم المصالح الشخصية المستنيرة للبلدان الغنية من خلال تحفيز الاقتصاد العالمي ودعم الأسواق التي تتلقى صادراتها. وإضافة إلى التبرع بمخصصاتها من حقوق السحب الخاصة، يتعين على البلدان المتقدمة الرئيسية أن تضمن على نحو مشترك، وفي إطار حدود متفق عليها، سندات حكومية أطول أجلاً تصدرها البلدان المحيطية. ولا بد أيضاً من تشجيع الترتيبات الإقليمية، شريطة أن تكون في إطار العمل الدولي. على سبيل المثال، يتعين على بنك الاستثمار الأوروبي، والبنك الأوروبي لإعادة التعمير والتنمية أن يعملا على تمويل الأشغال العامة في أوكرانيا بالاشتراك مع حزمة صندوق النقد الدولي. ولا بد من تشجيع اهتمام الصين بإفريقيا وغيرها من المناطق المنتجة للمواد الخام، شريطة أن تحرص الصين على احترام مبادرة شفافية الصناعات الاستخراجية وغيرها من المعايير الدولية. وفي الوقت نفسه يصبح من الممكن حث بلدان الفوائض المزمنة على استثمار قسم من احتياطياتها من العملات أو صناديق الثروة السيادية في سندات حكومية أطول أجلاً تصدرها البلدان الأقل نمواً من خلال منحها حقوق تصويت إضافية في صندوق النقد الدولي. ومن الممكن ربط هذا بالصندوق المشترك المقترح الذي يكمل مرفق السيولة قصيرة الأجل. وبما أن خطط حقوق السحب الخاصة لن تفيد كثيراً في توفير السيولة قصيرة الأجل للبلدان المحيطية، فلا بد من تحقيق هذه الغاية بالاستعانة بوسائل أخرى. وأبرز هذه الوسائل أن تساهم بلدان الفائض المزمن في إنشاء صندوق تكميلي لمرفق صندوق النقد الدولي الجديد للسيولة قصيرة الأجل، الذي يسمح للبلدان بسحب خمسة أمثال حصتها لمدة ثلاثة أشهر. على سبيل المثال، لا تستطيع البرازيل طبقاً لمرفق السيولة قصيرة الأجل أن تسحب أكثر من 23.4 مليار دولار، في حين أن احتياطياتها تبلغ ما يقرب من 200 مليار دولار. وإنشاء صندوق تكميلي أكثر مرونة من شأنه أن يمنح مرفق السيولة قصيرة الأجل قدراً أعظم من الثِقَل، والحقيقة أن توفر احتمال الحصول على حصص أعلى من شأنه أن يخدم كحافز للبلدان ذات الفوائض المزمنة لإنشاء صندوق تكميلي ضخم إلى الحد الكافي الذي يجعله مقنعاً. فضلاً عن ذلك، يتعين على البنوك المركزية في البلدان المتقدمة أن تمد خطوط مقايضة إضافية إلى البلدان النامية، كما يتعين عليها أن تتقبل الأصول المقومة بالعملات المحلية لجعلها أكثر فاعلية. ويستطيع صندوق النقد الدولي أن يلعب هنا دوراً مهماً من خلال ضمان قيمة الأصول المقومة بالعملات المحلية. وفي الأمد الأبعد يتعين على التنظيمات المصرفية الدولية أن تيسر تدفق الائتمان إلى البلدان المحيطية. وفي الأمد القصير يتعين على البلدان المركزية في البلدان المتقدمة أن تمارس الضغوط على البنوك المركزية لتجديد خطوط الائتمان. ومن الممكن أن يتولى بنك التسويات الدولية تنسيق هذه العملية. لن يتسنى لنا تنفيذ أي من هذه التدابير دون أن نفتح المسألة المثيرة للقلق بشأن إعادة توزيع الحصص. وهذا سيصب في المصلحة الذاتية المستنيرة لكل من الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية، وذلك لأنها ما لم تقبل التخلي عن بعض من حقوق التصويت، فإن البلدان التي أصابت الثراء حديثاً ستتوجه نحو الترتيبات الثنائية أو الإقليمية بدلاً من التعاون مع صندوق النقد الدولي. وقد لا يكون في الإمكان تجنب هذه المسألة في كل الأحوال، ولكن الأمر سيستغرق وقتاً أطول حتى يستقر. إن أفضل المسارات يتلخص في حشد الدعم لخطة واسعة النطاق لتفعيل حقوق السحب الخاصة، وذلك بالموافقة على البدء في المفاوضات. والحقيقة أن الرئيس أوباما قادر على تلبية توقعات العالم من خلال إحراز السبق على هذا المسار.
إنشرها