default Author

محاكمة "أرامكو"

|
بداية، تهنئة من الأعماق لوزارة البترول والثروة المعدنية ولـ "أرامكو السعودية" على النجاح الكبير الذي حققوه في المحاكم الأمريكية منذ حوالي أسبوعين، والذي نتج عنه رفض القاضي الفدرالي في الدائرة الجنوبية في ولاية تكساس الاستمرار في القضايا المرفوعة ضد "أرامكو"، لأن المدّعين فشلوا في إقناع القاضي بأن الأدلة التي قدموها كافية لمحاكمة الشركة وفق قوانين مكافحة الاحتكار الأمريكية. لقد كان فوزاً كبيراً, لأسباب عدة، تطلب عملا دؤوباً استمر شهورا كاملة، ومتابعة مستمرة، ودبلوماسية متميزة، وتكلفة كبيرة. مختصر القضية رفعت عدة شركات توزيع مشتقات نفطية قضايا في المحاكم الفدرالية في ولايات مختلفة على كل من أرامكو السعودية وشركة النفط الفنزويلية وشركة لوك أويل الروسية بتهمة مخالفة قوانين الاحتكار الأمريكية والتآمر لرفع أسعار المشتقات النفطية داخل الولايات المتحدة. وقامت شركتان أمريكيتان هما "فاست بريك فودس المحدودة" و"جرين أويل" برفع دعوى ضد "أرامكو" في محاكم الدائرة الشمالية في ولاية إلينوي، بينما قامت شركات أمريكية أخرى برفع دعاو ضد شركة النفط الفنزويلية (وشركة سيتجو التي تملكها) في مقاطعة كولومبيا وأوهايو وتكساس. ونظرا لتشابه الاتهامات والقضايا تم فيما بعد جمع كل القضايا في قضية واحدة وتحويلها إلى محكمة فدرالية في هيوستن. وتمكنت هذه الدول، بقيادة السعودية، من إقناع القاضي بعدم الاستمرار في القضية لأسباب عديدة منها أن الأدلة التي استخدمها الادعاء تركز على تعاون دول أوبك، وليس على تعاون هذه الشركات، وأن هذه الشركات تتبع أوامر حكوماتها، وأن قوانين هذه الدول تنص على تحكّم كل دولة في إنتاجها. وبما أن هذه القوانين تابعة لدول، والقانون الأمريكي يقضي بحصانة هذه الدول، فإنه لا يمكن محاكمتها. كما تم التركيز على نقاط أخرى أهمها أن إصدار حكم قضائي في هذا الأمر ينتج عنه تعارض السلطات القضائية والتنفيذية. وأقر القاضي بأن المواضيع المتعلقة بإنتاج نفط الدول الأخرى وأسعاره من اختصاص السلطة التنفيذية (البيت الأبيض والوزارات المختلفة) التي تتعامل مع قضايا الإنتاج والأسعار عبر قنواتها السياسية والدبلوماسية، وأن أي حكم قضائي في هذا الموضوع يعتبر تعدٍّ من السلطة القضائية على السلطة التنفيذية. لا يمكن محاكمة الشركات الحكومية ليست هذه هي المرة الأولى التي تتم فيها محاكمة من هذا النوع، ولن تكون الأخيرة. فقد تمت معالجة الأمر بصيغ مختلفة ثلاث مرات قبل هذه القضية، وقرر القضاة في كل هذه القضايا أنه لايمكن محاكمة دول أوبك بتهمة الاحتكار بسبب الحصانة التي تتمتع بها الدول وحكوماتها. وكنتُ قد كتبتُ مقالا في "الاقتصادية" بعنوان "لا لتخصيص أرامكو" نشرته "الاقتصادية" بتاريخ 18 أيلول (سبتمبر)، 2007 أكّدتُ فيه أن فشل المدّعين في القضايا السابقة سيجعلهم يركزون على الشركات بدلا من الدول: (القانون الدولي والقانون الأمريكي يعطيان الدول "حصانة" من القضاء فيما يتعلق بكيفية إدارتها لمواردها الطبيعية، الأمر الذي أكدته المحاكم الأمريكية أكثر من مرة عندما اشتكى البعض على "أوبك". تعلّم أعداء "أوبك" من هذه الحالات، لذلك فإن الاتجاه المستقبلي هو محاكمة شركات النفط في دول أوبك لأنها تحمل صفة "تجارية" بدلاً من الصفة "الحكومية". مشكلتهم في هذه الحالة هي أن القضاء الأمريكي يعمم مفهوم "الحصانة" ليشمل الشركات الحكومية حتى لو كانت ذات شخصية اعتبارية مستقلة لأن الحكومة تتحكم في الإنتاج والأسعار، لأسباب غير تجارية، بالطرق التالية: 1- فرض ضرائب عالية على هذه الشركات، والتي تمثل أغلب دخل هذه الحكومات، وهذا أمر يمس القطاع العام وليس الخاص. 2- فرض سقف للإنتاج لأسباب بيئية أو اقتصادية، وهذا أيضاً أمر متعلق بالقطاع العام. بناء على ما سبق فإنه لا يمكن محاكمة شركات النفط التابعة لحكومات "أوبك" بتهمة الاحتكار بحجة أنها تحمل الطابع التجاري لأنها تخضع للأوامر الحكومية في الإنتاج والتسعير. ولكن تحولها إلى شركات خاصة سينفي عنها هذه الصبغة وقد يخضعها لقوانين محاربة الاحتكار الأمريكية). ويتضح من قرار القاضي، والذي بلغ 54 صفحة، أن ما ذكر سابقا هو قواعد قانونية معروفة، ونشرها في "الاقتصادية" منذ أكثر من عام دليل على ذلك. إلا أن الادعاء حاول في هذه المرة إقناع القاضي بأن الأمور السابقة لا تنطبق على هذه الشركات، مستدلا بقضايا مختلفة من تاريخ المحاكم الأمريكية. ولكن كل محاولاتهم باءت بالفشل. الخطر الكبير: تجاهل القضية لم يكن لدى وزارة البترول وشركة أرامكو إلا خيار واحد: التفاعل مع القضية وكسبها بأي ثمن. وفي هذا السياق لابد من توضيح ثلاثة أمور مهمة. الأول أن لكل أمة مصادر تشريع، وأحد مصادر التشريع في الولايات المتحدة هم القضاة أنفسهم حيث يمكن لأي رأي قضائي أن يصبح "سابقة" في القضاء، خاصة إذا أكدته المحاكم العليا، وبالتالي يمكن الاعتداد بهذه السابقة في القضايا المستقبلية. من هذا المنطلق فإنه يجب أن تتم محاربة أي قضية في المحاكم الأمريكية تتعلق بمصالح السعودية، مهما كانت التكاليف، لأن تكاليف تجاهلها لا يمكن تحملها. إن تجاهل أي قضية قضائية، مهما كانت غريبة وغير منطقية، قد يؤدي إلى إحداث سابقة في القضاء يتم بناء عليها محاكمة كل ما يمت لمصالح حكومات الدول النفطية، بما في ذلك الشركات التي تملكها. الأمر الثاني أن خسارة هذه القضية بالذات سينتج عنها قرار بإجبار الحكومة السعودية على دفع أموال تبلغ مئات المليارات من الدولارات، وإذا رفضت فإنه يمكن تحصيل المبلغ المحكوم به عن طريق السيطرة على أموال وممتلكات وأصول الحكومة السعودية وشركاتها الموجودة في الولايات المتحدة. وبناء على ما ذكر في الأمر الأول فإن الأمر لن يتوقف عند هذه الخسائر لأنه بناء على هذه السابقة سيكون هناك عديد من القضايا ضد الشركات السعودية التي تملكها الحكومة. باختصار، ثقب واحد في السفينة سيؤدي إلى ثقوب كثيرة، وبالتالي غرق السفينة. لهذا فإن كل الجهود توجهت لمنع حدوث الثقب الأول. الأمر الثالث أن البعض قد يرى أن الأمر سهل: توظيف شركة محاماة تقوم بما يلزم. ولكن الأمر ليس بهذه السهولة لأنه لا يمكن لمحام أمريكي إثبات براءة "أرامكو" إلا إذا تم توفير كل الأوراق والمستندات اللازمة، وهذه جهود ضخمة وعلى عدة مستويات، خاصة أن المستندات في هذه القضية تطلبت وثائق وشهادات من 15 دولة نفطية يتطلب التعامل معها وإقناعها بالأمر دبلوماسية عالية، واتصالات على كل المستويات. فقد قامت كل دولة وافقت على المشاركة والتعاون في هذه القضية بأخذ الإجراءات القانونية لاستصدار تلك الشهادات وما يتبع ذلك من متابعة مع الأجهزة الحكومية المختصة. كل هذه الإجراءات تمت ضمن تواريخ معينة لتقديم الأوراق إلى المحكمة الأمريكية في الوقت الذي حددته المحكمة. كما تطلب الأمر استصدار شهادات مؤيدة للسعودية من هيئات ومراكز بحثية مستقلة، كمجلس الغرف التجارية الأمريكي. وتمت الاستعانة بذوي الخبرة والاختصاص وجهات محايدة ومحلية في الدفوعات لتأييد وجهة النظر السعودية. كما تطلب الأمر التعاون مع الحكومة الأمريكية لأخذ دعمها في حالة ما إذا طلبت المحكمة من الحكومة الأمريكية شهادة فيما يخص الدفوعات التي قدمتها المملكة. كما تضمنت الجهود التعاون مع الحكومة الأمريكية للتأكيد على معارضتها للقانون الذي أقره الكونجرس منذ فترة والذي يقضي بمحاكمة دول أوبك بتهمة الاحتكار. وتعتبر هذه الشهادة مهمة جداً لأنه يمكن للطرف المُدّعي أن يستغل قانون الكونجرس لصالحه. كما تم عقد جلسات مطولة لدراسة الاستراتيجيات المثلى التي يجب أن تتخذها السعودية في حالة خسارة القضية، وذلك كإجراء احتياطي، أو كخطة "باء" كما يقولون. وكما يعرف الجميع، فإنه لا يمكن لأي محام أن يقوم بهذا العمل. سر النجاح هناك دروس كبيرة من نجاح وزارة البترول والثروة المعدنية وشركة أرامكو في كسب القضية، وإن كان الموضوع ليس نهائيا حتى الآن إذا استأنف المدّعون قرار القاضي. هذه الدروس مهمة لكل المسؤولين، وليس للمسؤولين في قطاع النفط فقط. الدرس الأول: إقناع كل الدول المعنية بالتعاون ما كان لهذا النجاح أن يتحقق لولا العلاقات المتميزة لوزارة البترول والتي طورتها عبر السنين، والتي نجحت في التعاون مع الحكومتين الفنزويلية والروسية، الأمر الذي مكن من تجميع القضايا، ثم في إقناع القاضي بعدم الاستمرار فيها. وفي هذا السياق لابد من ذكر التعاون مع 15 دولة نفطية أخرى لجمع شهاداتها لإثبات أن قوانينها تتضمن فقرات تجبر شركاتها على تخفيض الإنتاج إذا اقتضى الأمر ذلك. الأمر الذي يبين أن الأمر عالمي ولا يقتصر على هذه الشركات الثلاثة فقط. الدرس الثاني: تجميع القضايا حققت وزارة البترول، نصرا قضائيا كبيراً عندما استطاعت إقناع المحاكم الأمريكية بتجميع كل الدعاوى في قضية واحدة، في محكمة واحدة، وتحت تصرف قاض واحد. إن تعدد القضايا يزيد من احتمال خسارة أحدها، الأمر الذي يؤدي إلى وجود سابقة قضائية كما ذكر سابقاً. في هذه الحالة فإن الفوز في تسعة قضايا، مثلا، وخسارة واحدة هو خسارة كاملة لأنه يمكن استخدام هذه الواحدة كسابقة قانونية. ويبدو أن المسؤولين في الوزارة استوعبوا الدرس التاريخي المشهور "أكلتُ يوم أكلَ الثور الأبيض" لأن عدم تجميع القضايا وترك كل قضية لوحدها وكل دولة لوحدها قد يؤدي إلى خسارة بعض الدول، وخسارتها ستستخدم كسابقة قانونية في محاكمة الدول الأخرى. الدرس الثالث: استراتيجية تفنيد كل الحجج..واحدة واحدة تذكرني استراتيجية الفوز بالقضية بسياسة فريق أوباما بالفوز بالبيت الأبيض حيث اتبعوا سياسة "الخمسين ولاية" وتجميع كل ما يمكن جمعه، بدلا من التركيز على الولايات المتأرجحة أو الولايات الكبيرة. فقد قام محامو الدفاع بالتركيز على كل الحجج وتفنيدها بقوة، الأمر الذي أدى إلى أمرين، رفض المحكمة الاستمرار في القضية بناء على أن كل الحجج الرئيسة غير مقبولة - مع التأكيد هنا على كلمة "كل" - وتجاهل المحكمة للحجج الأخرى لأن رفض الحجج الرئيسة يعني أنه لا حاجة إلى الدخول في الحجج الأقل أهمية. خلاصة الأمر أننا في عالم مترابط، ولا يمكن العيش بمعزل عن العالم، وإلا فلن يكون هناك سوق للنفط. ولكن مع هذا الترابط تأتي مخاطر عدة: سياسية واقتصادية وفكرية....وقانونية أيضا. ولا يمكن تفادي هذه المخاطر بتجاهلها أو تأجيل حلها، بل بمواجهتها بمجرد حدوثها وحلها. هذا الحل يكون وفقا للظروف المحيطة بها في أماكن وجودها، وليس وفقا للظروف المحيطة بالسعودية أو غيرها من الدول المُدعى عليها. ولابد في النهاية من التذكير مرة أخرى بأن السلطة القضائية مستقلة تماماً عن السلطة التنفيذية في الولايات المتحدة، ولا يمكن حل القضية بمكالمة تلفونية، أو رسالة، أو زيارة للبيت الأبيض.
إنشرها