Author

الحوار .. وهاجس الخصوصية

|
المهم في ثقافة الحوار : المتحاورون أنفسهم وليس الموضوع محل الحوار. ولذلك فإن كل تقريب في وجهات النظر في "المتحاور فيه "يتم بمعزل عن " المتحاور " لن يكون الحوار إلا استزادة من تضييع الأوقات واسترزاقاً للمتنفعين منه. إن المشكلة الرئيسة تكمن دوماً في نوعية ثقافة المتحاورين وصفاتهم وأخلاقهم وتصوراتهم، أما موضوع الحوار فهو يأتي تالياً وتابعاً وثانياً وليس له أهمية كأهمية تشخيص واقع الحوار. جل المتحاورين واقعون تحت تأثير سلطة ثقافية أو تأثير نفسي أو كليهما، فالسلطة الثقافية تحكم رؤيته وتقيد موضوعيته وتحوله إلى آلة صماء ، وتبنيه بناء مؤدلجاً غير صالح للنوع الإنساني. والتأثير النفسي يسلبه القدرة على التقبل ويجعله مستعصياً أو في حالة توتر من الآخرين، إذ قد يكون بالفعل متحرراً من محكمات العادة والثقافة لكنه لا يستطيع الخلاص من طبائعه الحادة التي تشكله في صورة متطرف متوحش. وقد يتخلص من العقد النفسية ويكتسب صفات أخلاقية راقية وحضارية لكنه مستسلم للثقافة التي تستحكم في رؤيته للأشياء من حوله. فهو وإن كان أخف ضرراً من المتحرر ثقافياً إلا أن النتيجة متقاربة، فالكل عند رأيه ، لأن رأيه متأثر بعارض خارجي وليس لأن رأيه بالفعل رأي موضوعي . ولذا نبه القرآن الكريم إلى أهمية التجرد التام في قوله جل ذكره (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ... ) إنني أتساءل باستمرار : كيف ستشيع ثقافة الحوار لدينا ولا يزال عندنا من يحتقر الآخرين ويزدري منجزاتهم، و يتعالى على أفكارهم ويكابر في تقبل الحق إلا بشروط تعجيزية، مع أن السنة النبوية أوضحت بصريح منقولها : أن الكبر شيئان : بطر الحق أي رد الحق ، وغمط الناس أي ازدراؤهم واحتقارهم. والله تعالى في محكم تنزيله نبه في أكثر سور القرآن الكريم إلى فداحة مسلك الكبر كصارف من صوارف قبول الحق فقال تعالى: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ) . و أود أن أشير إلى نقطتين أراهما غاية في الأهمية: أولاهما: أن المحاور ما لم يشعر بحاجته المعرفية، وأهمية معارف الآخرين ، فلن يكون للحوار أهمية مهما بذلنا لأجله. ثانيتهما: أن الإبقاء على الإحساس بالخصوصية في كل شيء بلا مبرر سيقطع بنا مسافات عن حِكمة الآخرين، فإن تلك الخصوصية والفرادة المزعومة – أحيانا - تؤثران حتى في تقبلنا للمشترك الإنساني في الذوق والجمال المتعارف عليه، وتقلب الطبيعة الفطرية والخصال التي استودعنا الله إياهها. وقد تكون هذه الخصوصية أحد المؤثرات الأكثر حظاً في الممانعة والتفاعل مع الآخرين ويتولد عنها في الغالب سلوك قطعي حدي وثقافة قطيعة غير قادرة على استيعاب المنجزات إلا بصعوبة بالغة وبطء شديد. إننا بحاجة إلى استبسال معرفي للقضاء على مادة الخصوصية في ثقافتنا فاستحكام الفرادة والخصوصية يؤثران في قولبة التصورات والأفكار ويمنعان العقل من روعة التواصل مع الأشياء بموضوعية.
إنشرها