Author

لا بديل لإعمال العقل .. حتى في تطبيق الدين

|
فلنفترض افتراضا خياليا جدليا: أن الولايات المتحدة صدقت في نيتها المعلنة بجلب الديمقراطية والحرية للعراق المحتل وتحرير شعبه من الطاغية.. من الصعب تخيل ذلك طبعا ولكن لنحاول للحظة.. فلو كانت نيتهم تلك صحيحة فهل يبرر ذلك الدمار الذي حدث؟ هل الرغبة في مصلحة مُتَخَيّلة يبرر التسبب في مفاسد لا حصر لها ولا أفق قريب لحلها؟ كل عاقل سيجيب بالنفي لأن مسألة تحاشي الضرر والمفسدة هي قضية يفهمها كل عقلاء العالم من أي بلد أتوا ولأي دين انتموا. كان هذا مثالا خياليا، ولكن في كلام الله عز وجل وسنة نبيه أمثلة حقيقية تؤكد هذا المفهوم وتؤصله. ألم يقل الله سبحانه:"ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم"؟ وهل هناك منكر أعظم من الشرك؟ أو هل يُلام ذو الفطرة السليمة على بغضه لهذا الظلم الكبير؟ بالتأكيد لا، إلا أنه يُلام على فقدان رشده، ويٌلام على تصرف قد يؤدي لمنكر أخطر وإن كانت نيته سامية ومحبة للحق. نعم.. هذا ما يعلمنا إياه قرآننا: مواجهة المواقف بالحكمة، واستخدام نعمة العقل في كل خطوة نقدم عليها أو نمتنع عنها لكيلا تكون أفعالنا عشوائية وبلا هدى (قد تصيب وقد تخطئ أي متروكة للمصادفة)، وحتى لا تصبح تصرفاتنا مجرد ردود أفعال غير مدروسة. ففي هذا الدين الغاية لا تبرر الوسيلة، ولا يغني حسن النية وصدقها عن إعمال العقل والنظر في الأمور. فنحن مُلزمون بمنهج .. بالطبع! وهذا المنهج يتيح لنا مساحة كبرى للاستفادة من طاقاتنا العقلية، ولا عذر لمن يعطلها. وإلا كيف نفهم أن الرسول عليه الصلاة والسلام - بعد فتح مكة - امتنع عن تغيير البيت ورده إلى قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع قدرته على ذلك؟ ألم يكن السبب خشيته من وقوع ما هو أعظم مثل عدم احتمال قريش ذلك لقرب عهدهم بالإسلام؟ أو كيف نفسر ما رواه ابن قيم الجوزية عن شيخ الإسلام ابن تيمية الذي روى عن نفسه: "مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقم، منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي فأنكرت عليه وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله والصلاة، وهؤلاء تصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم."؟ لعل في كلام ابن القيم - رحمه الله - جوابا على أسئلتنا، فقد قال: "إذا كان إنكار المنكر يسلتزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله.. ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل". إذن فليس الحديث عن المرونة المطلوبة في (تطبيق) عبادة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من باب النظر للمخلوقين دون مراقبة الخالق، أو محاباة للناس على حساب حكم الله عز وجل. إنما هو عودة إلى مُراد الله عز وجل وسنة نبيه بترتيب الأولويات وتقديم الأهم فالأهم، وما كان أسلوب النبي عليه الصلاة والسلام في دعوة قريش وغيرها إلا تجسيدا لهذه المفاهبم، فقد تدرج في أمرهم ونهيهم بداية بالتوحيد والعقيدة وتدرجا إلى تحريم الزنا والخمر وهكذا، وأمر صحابته المبتعثين للدعوة باتباع ذلك النهج الحكيم مثل معاذ بن - جبل رضي - الله عنه الذي بعثه لليمن ووصاه:"إنك تأتي قوما أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تُؤخذ من أغنيائهم فتُرد على فقرائهم". فعلا إنه أعظم الخلق وأعظم أسوة.
إنشرها