الطريقة التي نمارسها في بناء مساكننا ما زالت تمر بحالة من الفوضى الفكرية التي تتأثر ببعض العادات والتقاليد والنفاق الاجتماعي والتنافس بين الأقارب والأصدقاء. وهي حالة تمر بها معظم المجتمعات, ولكن في وقت مبكر من التطور الحضري والعمراني. فالمساكن ومنذ عرفها الإنسان تطورت من كهف وتطورت حتى وصلت إلى مرحلة القصور الضخمة في أوروبا ثم رجعت اليوم إلى وحدات سكنية صغيرة وموحدة المواصفات وتحقق رغبات من يسكنها وبقناعة ودون إسراف. وأصبح حتى الأثرياء ورؤساء كبريات الشركات يسكنون في شقق أو وحدات سكنية لا تتعدى 100 متر. ومع أن الظاهرة التي نعيشها ظاهرة معروفة وتفسرها نظرية دورة حياة المنتج كما يعرفها علم الاقتصاد, التي سأعود لتفسيرها لاحقا. إلا أننا في المجتمع السعودي ما زلنا متأخرين عن غيرنا كثيرا في تصاميم منازلنا. فالعالم وصل إلى مرحلة المواصفات والتصاميم الموحدة والقياسية. حتى أصبحت نماذج ومساحات المساكن تقريبا متماثلة ونموذجية ودون إسراف. فكلها تقريبا تستعمل مواصفات الحوائط الخفيفة والدهان والسيراميك العادي الأبيض أو الطوب المكحل أحيانا. وابتعدوا كثيرا عن التباهي والمحاكاة, حتى أصبحت مقايسات ونماذج الأبواب والنوافذ والحوائط والستائر موحدة ويمكن لرب العائله شراءها من أقرب متجر حوله وتركيبها بنفسه في عطلة نهاية الأسبوع. وتمتد مجمعات سكنية مكونة من عديد من الوحدات الصغيرة المتلاصقة والمتشابهة, ويتشاركون في حديقة واحدة وسط الحي, بل إن عدد العمالة التي يحتاج إليها لبناء الوحدة ربما لا تتعدى خمسة أشخاص أحيانا, وهي بداية الحل لمشكلة الإسكان والمسكن الميسر وجعله في متناول الجميع.
يستغرب كثير من الخبراء الأجانب كمية الإسراف في مساحات ومواد البناء التي نستعملها في بناء مبانينا, خاصة المنازل, فنسرف في المساحات وكميات الحديد والأسمنت والخرسانات للأحواش والحدائق وسماكات الحوائط وارتفاعات الأسقف والأسطح. وفي الوقت الذي يعد فيه المعدل العالمي للدور الأرضي أو الشقة للعائلة في حدود 80 إلى 100 متر مربع لمتوسطي الدخل، نجد أن معدلنا يصل إلى عشرات الأضعاف. فنحن لدينا مساحات أكثر من احتياجنا بل نضطر إلى دفع فاتورة كهرباء عالية لتكييفها, ونبني ونؤثث المجالس ليس للتمتع بها بل للضيوف ونحن لا يليق بنا إلا الملحق الخارجي. وغرفة النوم ليست للنوم كما يستعملها العالم، بل هي لكل شيء النوم والقراءة والأكل والشرب واستقبال الضيوف. ونوافذ غرف النوم أكثر وأكبر من نوافذ المجالس. حماماتنا أكبر مما يجب, خاصة ما يقوم به البعض من وضع بانيو ودوش لحمام الرجال والنساء, الذي يندر استعماله. نبني مجالس استقبال الضيوف ونفرشها أغلى أثاث ولا نستعملها بل نستقبل ضيوفنا في الملحق الخارجي حتى يقدم ويتغبر الأثاث الغالي وتأكله الحشرات وهو لم يستعمل. ولا أدري عندما يستقبلني بعضهم في الملحق، هل يعني أن مجلسه أكبر من مستواي وأن المجلس لاستقبال من هم أهم مني؟!
والإسراف يتمثل في استعمالنا مواصفات أكثر من اللازم, فالأسقف عادة نجدها أسمك من اللازم, وكميات الحديد والأسمنت مبالغ فيها. ومع ارتفاع أسعار مواد البناء لا بد من الاهتمام بعمل حسابات إنشائية أكثر دقة. فمثلا استعمال الأسقف العالية فيه زيادة في مواد البناء للحوائط والأسقف ومن ثم تكلفة التكييف والإنارة. ولماذا نستعمل طوب (بلك) 20 و15 سنتيمتراً, بينما يمكن استعمال بلك عشرة سنتيمترات, خاصة للحوائط الداخلية التي فيها القليل من التمديدات الكهربائية والصحية. إن توفير عشرة سنتيمترات في عرض كل حائط يصغر عرض المنزل ما بين نصف إلى متر على الأقل. أي يعطي اتساعا للغرف والمنزل. ويمكن التوفير في كميات الخرسانة التي نستعملها للمشايات والأحواش. كما أن سماكة الأبواب عالميا بحدود سنتيمترين بينما لدينا لا تقل عن خمسة سنتيمترات! ضعف كمية الخشب والتكلفة. وكذلك الحال لسماكة قطاعات الألمنيوم والزجاج, فهي ضعف السماكة العالمية. بينما استعمال أبواب ونوافذ وستائر بمواصفات ومقايسات موحدة ( ستنادرد) أو جاهزة يوفر كثيرا ويساعد على المرونة لتغير الأبواب مع بعضها.
ناهيك عن العادة التي يتبعها الجميع لبناء غرفة للضيف! مع أنني من خبرتي في هذا المجال أراها تتحول إلى مستودع، فالناس لم تعد تنام عند الأقارب أو الأصدقاء, فهم يفضلون فندقا أو شقة مفروشة, وأم الزوجة أو الزوج تنام عادة مع الأبناء وكذلك الآباء, وقد يكون ذلك أفضل تربويا ويسبب نوعا من التواصل والربط الاجتماعي بين الجدة والأبناء.
هذه الظاهرة التي نعيشها تفسرها نظرية دورة حياة المنتج منذ نشأته لحين تطويره ثم وصوله إلى حالة النضج ثم النمذجة, مثله في ذلك مثل تطور الحاسوب من جهاز بحجم الغرفة وبتكلفة بالملايين إلى جهاز أصغر من الكتاب, أو الساعات من صناديق وزجاجات رملية لا يستطيع الإنسان حملها إلى حزام صغير حول المعصم أو شاشة بصغر الزر. ومن المنطلق نفسه فإنه يمكن تفسير ظاهرة مساكننا ومعظم الوحدات العقارية سواء السكنية أو التجارية أو المكتبية بأنها تمر بنفس المرحلة والنمط من النمو والتطور بالتطابق مع نظرية دورة حياة المنتج. وهي من أشهر النظريات الاقتصادية التي طورها ريموند فيرنون كرد فعل لفشل نظرية أو نموذج هيكشر أوهلن لتفسير ومتابعة نمط التجارة الدولية. وهي باختصار تفسر أنه في بداية عمر المنتج فإن جميع الأجزاء أو المواد المصنع منها المنتج والأيدي العاملة تأتي من المنطقة نفسها التي اكتشف أو اخترع فيها المنتج, ولكن بعد خروج المنتج وتداوله واستعماله في السوق العالمية فإن الإنتاج يصبح خارج منطقته. ومن الأمثلة المتعارف عليها مثال الحاسوب الشخصي (الكمبيوتر), الذي تم اختراعه في الولايات المتحدة ثم تناقلت تصنيعه عدة دول أخرى بعد تصديره خارج بلده. أو الساعات التي اشتهرت بها سويسرا ثم انتشرت في كل مكان. وهناك أربع مراحل من حياة المنتج, وهي البداية ثم النمو ثم النضج, وأخيرا الانحدار.
هذه النظرية تنطبق على معظم دورات حياة المنتجات سواء العقارية أو الصناعية أو التجارية. ولعلنا اليوم نستفيد من النظرية في تفسير أو استشفاف مستقبل الوحدات السكنية في بلدنا. فالوضع الحالي لنا وبناء على النظرية هو أننا ما زلنا متأخرين في السبق للوصول إلى مرحلة النضج العمراني, وأننا قد نستغرق عقودا من الزمن لحين الوصول إلى مرحلة النضج والتوحيد للمقايسات والنماذج ( ستاندرد). لقد مررنا بمرحلة لم يكن المواطن السعودي يرضى بالسكن في غير فيلا, ثم تغير الوضع بعد سنوات وأصبح يرضى بالفلل المتلصقة ولكن ليس بالشقة, وأخيرا رضي بالشقة ولكن كبيرة وفخمة وبمواصفات متميزة .. فمتى نصل إلى مرحلة النضج في منازلنا؟ والنضج في التوفير على أنفسنا ومقدراتنا ومقدرات الوطن. وأن نترك الإسراف والتباهي الزائف, خاصة لمن يشتكون من عدم القدرة على الحصول على سكن أو من يطالب بالإسكان الميسر.