Author

آلية اختيار القيادات الإدارية الحكومية

|
تمثل القيادات الإدارية المحور الأساس في العمل الحكومي فعلى عواتقهم تقع مسؤولية صياغة الاستراتيجيات المستقبلية وتحديد الرؤية عبر استشفاف المستقبل والإعداد له، بل وخلق واقع جديد لم يعهد من قبل يحقق المنفعة العامة، وبذات الوقت التأكد من أن القرارات تكون صحيحة سياسيا أي الموازنة بين الثوابت الوطنية وعملية التطوير والتغيير الاجتماعي. هذه تتطلب قدرات متميزة لا يمتلكها إلا نخبة من القياديين المتمرسين الذين أثبتوا عبر تجارب وخبرات عملية طويلة مليئة بالتحديات والصعوبات أنهم قادرون على تحقيق نجاحات وإنجاز المهام الكبيرة. هؤلاء ليس بالضرورة أن يكونوا من داخل القطاع الحكومي نفسه ولكن من القطاع الأهلي أيضا فطبيعة عملهم وأدوارهم القيادية لا تستلزم الدراية بالقطاع أو المشروع بشكل تفصيلي وإنما تتطلب أفكارا ورؤى تقود العمل وتجلي الصورة لما ينبغي عمله في الاتجاه الصحيح. إنها القدرة على الإطلال على المستقبل والإحساس العميق المبني على التجربة في رؤية وتصور ما لا يراه الآخرون. إنها القدرة على الوصول بالمشروع أو المهمة لأوضاع لم يسبق لأحد أن طرقها أو سبر أغوارها. إنها الشجاعة في تقديم الشيء الجديد، الذي ربما يلقى معارضة من أولئك الذين لا يحبذون التغيير ويفضلون الركون للمألوف وإبقاء الأمور على ما هي عليه. لكن كيف السبيل للتعرف على هذه النخب الإدارية ومن ثم المفاضلة بينها، لا شك أنها مهمة صعبة للغاية خاصة إذا لم يكن هناك توثيق وقاعدة بيانات متكاملة توفر المعلومات الدقيقة وتصف تلك القيادات وتجربتهم وتقيم أداءهم المتميز. وتقييم الأداء هو جوهر عملية التعرف على القيادات الناجحة ومن ثم اختيارهم. الإشكالية في الخلط بين أدوار الإدارة الوسطى والإدارة العليا وتبعا الوقوع في افتراض خاطئ بتقييم أداء القيادات الإدارية العليا على أساس أدوار ومهام الإدارة الوسطى، فيتم التركيز على مقدار الاجتهاد والإنتاجية في تنفيذ السياسات والكفاءة في تطبيق الإجراءات الروتينية وليس في مجال التخطيط الاستراتيجي وتوليد الأفكار الإبداعية والدفع نحو آفاق أرحب من العمل الحكومي والإعداد للمستقبل بل إعداد المستقبل والإسهام في تشكيله. إن أهمية القيادات الإدارية العليا بأهمية القرارات والسياسات التي يصنعونها فقراراتهم تؤثر في شريحة كبيرة من الناس ولمدة طويلة لا يمكن التراجع عنها في كثير من الحالات. هذه القرارات قد تكون تراكمية غير مباشرة ولكنها تتحول مع مرور الزمن إلى طود كبير إما من الإنجازات العظيمة التي تقود وتهيئ لنجاحات أخرى وإما مجموعة من الإخفاقات التي تبطئ المشروع الوطني التنموي وتؤدي إلى إعاقة عملية التطوير والتغيير الاجتماعي. والأمثلة على هذه كثيرة ومتعددة، ففي جانب الإنجاز يبرز مشروع "سابك" لمدينتي الجبيل وينبع الصناعيتين كمثال لسياسات قيادات إدارية مستنيرة في إحداث نقلة نوعية في الصناعة النفطية يمكن وصفها بالإبداعية والجريئة والشجاعة. وقد تكون سياسة زراعة القمح وهو محصول موسمي والتوسع فيه على نحو أثر سلبا في مستوى المياه الجوفية مثال لقيادات لم يقدر لها انتهاج سياسات واستراتيجيات ناجحة سنظل نعاني منها لأجيال مقبلة. هناك أمثلة أخرى لا يتسع المجال لذكرها تمثل في مجملها نجاحات وإخفاقات مردها قيادات إدارية ناجحة وأخرى غير ناجحة. وهنا يتضح جليا أن العنصر الأهم في عملية التنمية الوطنية هو القيادات الإدارية المميزة. ولذا كان من الضروري إيجاد نظام لشؤون الموظفين خاص بفئة الإدارة العليا ليس فقط فيما يتعلق بالمكافآت والحوافز ولكن أيضا البحث عنهم واختيارهم وتحديد معايير خاصة لتقييم أدائهم والعمل على تطوير بعض القيادات الإدارية في الإدارة الوسطى ممن أثبتوا قدرات إدارية ويمتلكون الإمكانات والمهارات التي تهيئهم لتولي مناصب عليا. النظام الخاص (الكادر) بالقيادات الإدارية العليا حصري لا يتم الدخول فيه إلا عبر اجتياز اختبار ومن ثم الترقي في مراتبه حتى الوصول إلى المنصب الأعلى. هذا النظام بمثابة مسار وظيفي للقيادات يتم فيه تطويرهم وتنمية مهاراتهم من خلال برامج تدريبية وورش عمل خاصة وإخضاعهم لتجارب عملية من خلال توليتهم مناصب ومهام متنوعة. ولأن الأساليب القيادية متعددة ومتنوعة يلزم أن تعكس قاعدة بيانات النخب القيادية هذا التمايز بحيث يتم تصنيفها حسب القدرات المتنوعة لتسهيل مهمة وضع القيادي المناسب في المنصب المناسب. الإشكالية الإدارية التي نعانيها هي تطبيق التنظيم البيروقراطي بطريقة غير كفؤة، إذ يتم التركيز على تطبيق الأنظمة والإجراءات بتجريدها من مقاصدها التي وضعت من أجلها ودون ربطها بالأداء وتحقيق الأهداف. هذه البيئة الإدارية بيئة غير مشجعة للقيادات ولا تتيح الفرصة للإبداع والابتكار بل تدعو للالتزام والركود والثبوتية. وفي غياب مجالس نيابية فلا مساءلة للبيروقراطيين ولا ضغط في المطالبة بنتائج ملموسة ومطلوبة. هذا الوضع الإداري يؤدي إلى التراخي والإغراق في الإجراءات الروتينية التفصيلية ويكون على حساب التخطيط للمستقبل والتطلع إلى التطوير واحتواء المتغيرات والمستجدات. وعندما يكون اهتمام الإدارة العليا منصبا على تطبيق الإجراءات وممارسة السلطة الإدارية من أجل التحكم والمراقبة وليس من أجل دفع العاملين وتحفيزهم لعمل الأفضل تتحول فيها الإجراءات إلى هدف بحد ذاته ولتكون جزءا من القيم الداخلية للموظفين فيتفانون في تطبيقها دون استحضار المقصد والغرض الأساس من الإجراءات وهكذا تتكون ثقافة ترى فيها المنظمة المراجعين ومستخدمي الخدمة مستجدين لها لتقدم لهم بجمود وتعالي. إن التوجيهات التي يطلقها خادم الحرمين الشريفين في أكثر من مناسبة وحرصه على أن يتم تنفيذ الإرادة السياسية وتحويلها إلى مشاريع وخدمات تنفع الناس تعكس درايته ـ يحفظه الله ـ أن الأجهزة الإدارية الحكومية بطبيعتها بطيئة وأنها تحتاج إلى قيادات ذات نظرة ثاقبة متحفزة لعمل الأفضل والإنجاز. وما يؤكد ضرورة وأهمية القيادات الواعية المميزة تزايد التحديات الداخلية والخارجية التي تتطلب قيادات إدارية تستطيع إحداث التغيير والانتقال بالمجتمع إلى مستويات أعلى من التحضر الاجتماعي والقدرة الاقتصادية ومعالجة الظواهر السلبية مثل البطالة والفقر والمخدرات والإرهاب والسطو المسلح وفي الوقت ذاته مواجهة المنافسة العالمية الشرسة والعمل على أن نكون في رأس قائمة الدول المتقدمة، فكما يقول الأمير خالد الفيصل "مللنا نعتنا بدولة نامية". هناك قيادات وطنية مميزة نفتخر ونفاخر بها اعتلت المناصب القيادية وهناك أخرى لم يحالفها التوفيق ولم تكن تملك القدرات التي تؤهلها لهذه المناصب وهذا يدل دلالة واضحة على أن الأمر يجب ألا يترك للاختيار لاعتبارات شخصية وولاءات تنظيمية وإنما يلزم أن يكون هناك معايير مؤسسية مهنية يتم على أساسها الترشيح والمفاضلة، ذلك أن الأقل قدرة من القياديين يؤثرون سلبا في أداء القيادات الأكثر تميزا ما يعود سلبا على التنمية الاقتصادية والاجتماعية ويقلل من القدرة التنافسية. القيادات الإدارية هم عناصر التغيير الاجتماعي وكيفما يكونون يكون نوع واتجاه وسرعة التغيير ومستوى التحضر والتنمية.
إنشرها