Author

كيف نخرج من الأزمة في عام 2009؟

|
في ظل هذه الاضطرابات العاصفة التي تحيط بالأخبار والأحداث المصاحبة للأزمة المالية الحالية، فمن الصعب في كثير من الأحيان أن يتمكن المرء من الحفاظ على صفاء ذهنه وتكوين صورة واضحة لما يجري حقاً من حوله. ولكن إذا ما أخذنا خطوة إلى الوراء (وهو ما نستطيع أن نفعله بسهولة في الأيام التي تكون فيها الأسواق مغلقة). وهنا تصبح الصورة أكثر وضوحاً، ونستطيع أن نتبين السياسيات التي يتعين علينا أن نتبناها. اسمحوا لي أولاً أن أجهز المشهد بتوضيح ثلاث ملاحظات تدور حول موقفنا اليوم. أولاً، في البلدان المتقدمة، ربما نكون قد شهدنا أسوأ الأزمات المالية على الإطلاق. ولا تزال هناك ألغام أرضية متخلفة، من عمليات مقايضة التخلف عن سداد الائتمان المجهولة CDS إلى الخسائر المستترة في دفاتر الموازنة، ولكن ربما تكون أسوأ أيام أسواق المال المتجمدة وتوزيع الخسائر على نحو فاحش قد انتهت. ثانياً، ومما يؤسف له أن الأزمة المالية قد انتقلت إلى الأسواق الناشئة. فبعبورها للحدود، كانت عمليات إعادة توزيع محافظ الاستثمار بصورة حادة والاندفاع إلى أصول أكثر أماناً من الأسباب التي أدت إلى خلق ليس فقط أزمات مالية، بل وأيضاً أزمات خاصة بأسعار الصرف. وإذا ما أضفت إلى هذا الهبوط الناتج في البلدان المتقدمة، فسوف يكون بوسعك أن تدرك حجم المعاناة التي تعيشها الآن الأسواق الناشئة بسبب ارتفاع تكاليف الائتمان وانخفاض الطلب على الصادرات. ثالثاً، في البلدان المتقدمة اقتصادياً، كانت الضربة التي تعرضت لها الثروة، وشبح الخوف من الانزلاق إلى أزمة عالمية عظمى ثانية، من الأسباب التي دفعت الناس والشركات إلى الحد من الإنفاق بصورة حادة. ولم يكتف الناس والشركات بإعادة تنظيم خطط الإنفاق فحسب، بل لقد عمدوا إلى تأجيل الشراء، على أمل أن يتضح المجهول مع الوقت. وكانت النتيجة انخفاضاً حاداً في الناتج وتشغيل العمالة، الأمر الذي عزز من المخاوف بشأن المستقبل، والمزيد من الحد من الإنفاق. والآن اسمحوا لي بالعودة إلى الخطة. إن كان تشخيصي للأزمة مصيباً، فهذا يعني أن مجموعة من السياسات الواجبة واضحة ومباشرة: أولاً، لابد من تنقيح وتوحيد التدابير التي اتخذت في وقت سابق لإصلاح النظام المالي. إن النعمة المستترة التي أتت بها أسوأ أيام الأزمة في شهر تشرين الأول (أكتوبر) تتلخص في تخويف الحكومات وحملها على العمل على الجبهة المالية. ولقد عملت البنوك المركزية على توفير السيولة بسخاء. #2# ولكن سرعان ما أدركت الحكومات أن القضية الأساسية تتلخص في القدرة على سداد الديون، فتعهدت بتنفيذ برامج تهدف إلى شراء الأصول (لتوضيح دفاتر ميزانيات المؤسسات المالية)، وإعادة تمويل البنوك (لضمان استمرارها في الإقراض إذا ما أثبتت قدرتها على الوفاء بديونها)، وتوفير الضمانات (لطمأنة المودعين وبعض المستثمرين الذين كُـتِبَت لأموالهم النجاة). إن البنية الأساسية لهذه التدابير أصبحت في مكانها السليم بالفعل، ولكن التنفيذ كان غير مدروس في أغلب الأحوال. وكان بوسعنا أن نتعلم من دروس الأزمات المصرفية السابقة في مختلف أنحاء العالم. ولكن التقلبات والانعطافات في بعض البرامج، وبخاصة في الولايات المتحدة، كانت سبباً في إصابة الأسواق بالارتباك، كما دفعت مستثمري القطاع الخاص إلى البقاء على الهامش، في انتظار اتضاح السياسات قبل المشاركة في المؤسسات المالية. لا شك لدي في أن التعلم من خلال الأداء الطيب لابد أن يقودنا في النهاية إلى برامج متماسكة، لكننا أهدرنا الكثير من الوقت المهم. ثانياً، لابد من مساعدة الأسواق الناشئة في التكيف مع الأزمة المالية. والمسألة لا تتلخص في مجرد تزويدها بالسيولة حتى تتمكن ببساطة من الحفاظ على أسعار صرف عملاتها في مواجهة تدفقات رأس المال الضخمة إلى الخارج. إذ إن أغلب المستثمرين الذين يريدون الخروج لن يعودوا لبعض الوقت، ويتعين على تلك البلدان أن تتقبل هذه الحقيقة وأن تتكيف وفقاً لذلك. في بعض الحالات قد يكون بوسع هذه البلدان أن تتولى بنفسها القيام بهذه المهمة، وعلى هذا فإن كل المطلوب في هذه الحالية يتلخص في دعمها بالسيولة النقدية من أجل تفادي انهيار أسعار صرف عملات هذه البلدان والسماح لها بالتأقلم. وفي حالات أخرى كان تدفق رؤوس الأموال إلى الخارج سبباً في تفاقم صعوبة الموقف. وهذه البلدان تحتاج إلى المزيد من السيولة النقدية؛ كما تحتاج إلى المساعدة المالية حتى تتمكن من تنفيذ التعديلات اللازمة. ولكن هل أصبحت تدابير المساعدة اللائقة في المكان السليم؟ أجل وكلا. ففي القليل من البلدان وفرت البنك والمركزية الرئيسية فرص الحصول على السيولة النقدية من خلال خطوط المقايضة. أما صندوق النقد الدولي فقد بادر من جانبه إلى إنشاء مرفق جديد لتوفير السيولة، الأمر الذي مَـكَّن البلدان المؤهلة سابقاً للتقدم بطلباتها والحصول على الأرصدة المالية بأقل قدر من الشروط أو بلا شروط على الإطلاق. وفي الوقت الحاضر، كانت هذه الترتيبات كافية. ولكن توفير السيولة لابد أن يتم وفقاً لأسس أكثر تماسكاً وشمولاً. أما بالنسبة للبلدان التي تحتاج إلى المزيد من المساعدة، فهذه هو الوظيفة الطبيعية لصندوق النقد الدولي. ولقد حصل عدد من البلدان بالفعل على بعض الأرصدة المالية في إطار برنامج الإقراض. والحقيقة أنني قد يساورني القلق إلى حد كبير بشأن احتمالات نفاد الأرصدة المتاحة لدى الصندوق قبل أن تنفرج الأزمة. ثالثاً، يتعين على الحكومات أن تبادر إلى مواجهة الانخفاض الحاد في معدلات الطلب على الاستهلاك والاستثمار. وفي غياب السياسات القوية، فمن السهل أن يفكر المرء في سيناريوهات مرعبة حيث قد يتغذى الإنتاج المتدني والمتاعب التي يواجهها النظام المالي كل منهما على الآخر، الأمر الذي لابد أن يؤدي إلى المزيد من الانخفاضات الحادة في الناتج. وعلى هذا فمن الضروري أن تحرص الحكومات على توضيح استعدادها للقيام بأي شيء من أجل التغلب على هذه المجازفة السلبية. #3# ولكن هل يتسنى للحكومات أن تفعل ذلك بقدر كبير من المصداقية؟ الإجابة هي أجل. فمع انخفاض أسعار الفائدة بالفعل، يصبح الحيز المتاح للسياسة النقدية محدوداً. ولكن الحيز المتاح للسياسة المالية أعرض اتساعاً. لذا، يتعين على الحكومات أن تقوم بمهمتين على نحو عاجل. أولاً، في البلدان حيث المساحة المالية متاحة، يتعين عليها أن تعلن عن توسعات مالية جديرة بالثقة؛ ونحن نعتقد ـ في صندوق النقد الدولي ـ أن التوسع المالي العالمي بمقدار 2 في المائة في الإجمالي من الناتج المحلي الإجمالي العالمي أمر ممكن ومناسب. ختاماً، وعلى نفس القدر من الأهمية، يتعين على الحكومات أن تشير إلى استعدادها لتنفيذ المزيد من تدابير التوسع المالي إذا ما تدهورت الظروف. في ظل هذه الالتزامات فقط سيكون بوسع الناس والشركات أن يطمئنوا إلى أن العالم ليس متجهاً نحو تكرار الأزمة الاقتصادية العظمى، وأن يعودوا بالتالي إلى الإنفاق. لدي اعتقاد راسخ أن هذه السياسات، إذا ما اتبِعَت، فسيكون بوسع الاقتصاد العالمي أن يبدأ في التعافي من هذه الأزمة بحلول نهاية عام 2009، إن لم يكن قبل ذلك.
إنشرها