Author

الحقبة الجاهلية.. مَن بعثها مِن مرقدها؟!

|
إن المتأمل في الحراك الاجتماعي والثقافي في مجتمعنا يلحظ بجلاء ظهور العصبية القبلية، بشكلٍ لافت للنظر، بل يلحظ بَعث الحقبة الجاهلية من مرقدها! وأعني بالحقبة الجاهلية الفترة التي سبقت توحيد المملكة واستقرارها السياسي. وسأحاول في هذه المقالة تعرية ظواهر بعث هذه الجاهلية، وأستثير بعض التساؤلات لعلها تسهم في حلها. تنتابك الدهشة وتتملكك الحيرة وأنت تتصفح أبرز منتج تقني ثقافي وهو الإنترنت الذي يعد سمة من سمات التقدم والحضارة, أقول تتملكك الدهشة وأنت ترى هذا الكم الهائل من المواقع الشعبية ومواقع القبائل والتي همها الأول تكريس العصبية والجاهلية! وسترى بكل وضوح أن ثمة رابطةٌ بدأت تطفو على السطح وهي رابطة القبيلة، بل بدأت تزاحم وتنافس رابطة الدين ورابطة المواطنة!! وسترى عجباً في اجترار مصطلحات جاهلية تم بعثها من ذلك الماضي السحيق. خذ مثلاً " لابتي، بني عمي، عصابة رأسي، أخذنا آل فلان،، خيّال كذا، مناخ كذا، وتكاونا حنا وآل فلان (المناخ والأكوان أي المعارك) - ولاحظوا أني احتجت هنا في تفسير هذه المصطلحات إلى بعض القراء - وستجد أيضاً عبارات من قبيل، العياف، رد البرا، مرابط خيلنا، قلاعة فلان.. ناهيك عن السخرية والتلامز والمسميات الجاهلية، واشتداد وطيس المعارك الإنترنتية بين القبائل!! لقد تم هذا في غضون السنوات القليلة الماضية فأصبح مثل كرة الثلج يزداد حجمها بتدحرجها بشكل يدعوا للتساؤل. مَن يقف وراء هذا؟ ولمصلحة مَن يجري هذا؟ ومَن بعث هذه الجاهلية من مرقدها؟! وكنا نظن أنها وُئدت في مهدها. إنني أزعم في هذه المقالة أن ثمة معطيات اجتماعية وثقافية أسهمت في هذا بشكلٍ رئيس، ويمكن أن أختزلها في الأسباب التالية، واسمحوا لي أن أسميها (خماسي الجاهلية): ـ مزاين الإبل. وهذا السبب هو عرّابها الأول بلا منازع! ـ القنوات الفضائية الشعبية (تكريس المهايط). ـ المنتديات الشعبية ومواقع القبائل على الإنترنت. ـ شعراء القلطة والمحاورات الشعرية ( اللعب على المكشوف). ـ برنامج شاعر المليون. والضحك على الذقون! هذا كله صَنَعَ ثقافة مجتمعية تدعو إلى العصبية والقبلية، بل حتى الإخوة الكرام الذين لا ينتسبون إلى قبائل بدأوا يبحثون عن رابطة أو عصبة أو ركنٍ شديد يأوون إليه في خضم هذا السيل القبائلي الجاهلي الجارف. ولا تعتقدوا أن هذا رأيٌ شخصي لصاحب هذه المقالة بل هو رأي كثير من عقلاء القبائل ورؤوسهم، ولقد ناقشت كثيراً منهم فوجدتهم كارهين هذه الجاهلية وما يترتب عليها من ظلم وبخس حق الآخرين وإسراف في المناسبات القبلية، لكن هؤلاء العقلاء يجرفهم عقل القطيع فلا تسمع لهم صوتاً! إن هؤلاء الذين يسعون لبعث هذه الحقبة الجاهلية وهم يقرأون تاريخها أو يسمعونه من أفواه الرواة يغضون أبصارهم ويتعامون عن الجانب الموغل في الظلمة من هذا التاريخ! ويحاولون تجميله وإبرازه بشكلٍ إيجابي بإلباسه ثوب البطولة والشجاعة والشيمة – وهي موجودةٌ - لكن معها ويوازيها بل يتجاوزها بكثير جهلٌ مطبق، وضعفٌ في الديانة، وإيغالٌ في الجفاء والشراسة، وحسبك بظلمة تلك الحقبة ترخصهم في دماء إخوانهم المسلمين، بل إن قتل الرجل مثل قتل الشاة!! وما يترتب على هذا من ترمل النساء وتيتم الأطفال والشتات والفرقة الاجتماعية. إن تلك الحقبة من تاريخنا حقبة سوداء لنا جميعاً الغالب والمغلوب، القاتل والمقتول. إن خطورة هذا الموروث الجاهلي تكمن في كونه كسرطانٍ متجدد الخلايا، كثير الشظايا، فتجد العصبية والتنافر بين قبيلتين، ثم يمتد ليكون في القبيلة بين فخذين منها، ثم يمتد حتى يكون بين أبناء الرجل الواحد، وهذا الأمر مشاهد في واقعنا ومقررٌ في التاريخ العربي: وأحياناً على بكرٍ أخينا.. إذا ما لم نجد إلا أخانا قال لي صديقٌ - تصيبه بين الفترة والأخرى نوباتٌ جاهلية - وهو نشوان مغتبط: تدري أن فلان ـ رحمه الله ـ قتل بسيفه 90 رجلاً (في الحقبة الجاهلية)، فقلت له أكفارٌ هم أم مسلمون، قل لا بل مسلمون من القبائل الأخرى! قلت كلام ربي فصلٌ بيني وبينك "وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا" (النساء:93) لاحظ كيف جمع الله في هذه الآية الكريمة أربعة أنواع من الوعيد مما يدل على شناعة هذا الجرم. إن تلك الحقبة الجاهلية كانت نتاجاً طبيعياً لعدم وجود كيان سياسي موحد، ونتيجة للفقر وندرة الموارد، واختزال الدين في شعائر معينة، بل وتشويهه (غلواً أو جفاء)، هذه العوامل وهذه القوى المؤثرة تفسر لنا وجود الجاهلية في تلك الحقبة لكن الأمر المُحير هو بعث هذا الموروث ليكوّن إيقاعاً مجتمعياً وليتردد صداه في ردهات وسائل الإعلام المختلفة اليوم، فهذا ما لا يُفهم ولا يُستساغ!! فالعوامل التي أسهمت في إيجاده في تلك الحقبة منتفيةٌ تماماً – ولله الحمد – في مجتمعنا هذا وفي عصرناً، فهنا كيان سياسي موحد (الوطن والمواطنة) وهي تستند إلى أساس شرعي متين (الأخوة الإسلامية). وإنني هنا لا أدعو البتة إلى إلغاء القبيلة أو تهميشها. كلا وحاشا!! كيف! وقد كانت جيوش المسلمين في الصدر الأول من الإسلام تتكون من هذه القبائل، ففي الميمنة بني فلان وفي الميسرة بني فلان. كما أني أقرر أن للقبيلة – من واقع دراسة التاريخ – دوراً في مقاومة الاستعمار والاحتلال، وأنظر إلى الدول العربية التي دخلها الاستعمار كيف بدأ أول ما بدأ بإلغاء رابط القبيلة فتجد اسم الرجل مثلاً محمد خالد مصطفى شريف..! وقد نجح الاستعمار في هذا وأخفق. وأنظر إلى دور القبيلة في مقاومة المحتل. عشائر العراق مثل حي لذلك، هذا جانبٌ مضيء وإيجابي للقبيلة لا ينكره أحد! لكن التعاطي مع الموروث القبلي بالصورة الجاهلية التي ذكرتُ وخطورته على النسيج الاجتماعي للمجتمع هو الذي دفعني للتساؤل: الحقبة الجاهلية. مَن بعثها مِن مرقدها؟ ولمصلحة مَن؟!!
إنشرها