Author

التنظيم القانوني للودائع النقدية المصرفية

|
نظراً لأن التعامل مع البنوك أصبح في وقتنا الحاضر ضرورة لا غنى عنها؛ إذ لا يستطيع أي شخص أن يكون بمنأى عن المعاملات المصرفية بأي صورة كانت، وخاصة في الوقت الحاضر؛ حيث شارك العديد من المواطنين والمقيمين في الاستثمار في سوق المال، فاستفاد البعض منهم وحقق أرباحاً طائلة في أوقات قصيرة وخسر الكثيرون منهم خسارات فادحة، لذا فقد تناولت في المقال السابق ضرورة تثقيف المواطنين والمقيمين بالأعمال المصرفية وطبيعتها القانونية ليعرفوا حقوقهم والتزاماتهم الشرعية والقانونية في علاقاتهم المتبادلة مع البنوك، وفي هذا الإطار أتناول في هذا المقال عقد الوديعة النقدية المصرفية (أو ما يسمى بحسابات المصارف)، وطبيعته القانونية، والالتزامات التي تقع على عاتق طرفيه باعتباره من أكثر وأهم المعاملات المصرفية اليومية التي تقوم بها البنوك مع المتعاملين معها دوماً؛ والمعمول به لدى البنوك أن عقد الوديعة يقترن عادة بفتح حساب مصرفي ـ حساب ودائع ـ للعميل، وفتح الحساب هو عقد متصل بالوديعة وقائم عليه، فتكون هذه الوديعة هي العملية الأولى التي تضمنها الحساب عند فتحه، وتتلوها عمليات إيداع أخرى وعمليات سحب من قبل العميل. فيُقصد بهذا العقد أن يقوم أحد الأشخاص، سواء أكان شخصاً طبيعياً أو اعتبارياً، بتسليم أحد البنوك مبلغاَ من النقود ليحتفظ له به، ويتعهد برده وقت طلبه له. فهذا العمل المتمثل في تسليم مبلغ من المال للبنك يُعد عقداً بالمعنى القانوني الصحيح، ولكن رجال الاقتصاد وعملاء البنوك لديهم مفهوم آخر أكثر اتساعاً لمعنى وديعة النقود لدى البنك؛ مفاده أن النقود التي يودعها أحد الأشخاص لدى البنك لا تقتصر على المبالغ التي يُسلمها العميل للبنك نقداً، بل تتسع لتشمل كل المبالغ التي يكون العميل دائناً بها للبنك والمُستحقة الدفع حالاً والمُقيدة في الجانب الدائن لحساب العميل طرف البنك. ومن ثم فإنه لا عبرة بنوع العملية التي تولد منها حق دائنية العميل، أي يستوي أن تكون وديعة بالمعنى الضيق ( أي مجرد تسليم العميل مبلغا من النقود للبنك) أو خصم كمبيالة أو تحصيلها لحساب العميل. ويعد عقد الإيداع المصرفي عقداً رضائيا يتم بتوافق إرادتي البنك والعميل المودع، ويكون لدى البنك عادة نماذج تتضمن الشروط المطبوعة لهذا العقد ثم يعرضها على العميل عند فتح الحساب فيقرأها ويوقع عليها، وإذا كان الأصل أنه يجب أن تتوافر في العميل أهلية فتح الحساب إلا أنه نظراً لأن الوديعة النقدية المصرفية تتضمن دائماً نقلاً لملكية المبالغ المالية المودعة إلى البنك، لذا فإنه يلزم، فضلاً عن ذلك، أن تتوافر في المودع أهلية التصرف. ويعد عقد الوديعة المصرفية عقداً تجارياً دائما بالنسبة للبنك، حيث يتم إثباته في مواجهته بكل طرق الإثبات طبقاً لمبدأ حرية الإثبات في المسائل التجارية، أما بالنسبة للعميل المودع فيكون العقد تجارياً إذا كان المودع تاجراً وتم الإيداع لحاجات تجارته، ويكون مدنيا في غير ذلك من الحالات، ويستطيع العميل في كل الأحوال أن يثبت العقد بالإيصال الصادر من البنك والموقع من أحد الموظفين المختصين. وللوديعة النقدية المصرفية خاصيتان: الأولى أن البنك يتلقى ملكية المبالغ المودعة، ومن ثم تُصبح له الحرية الكاملة في استعمالها في جميع أوجه الأنشطة البنكية المشروعة التي يقوم بها، أي في أعمال البنوك التي تدخل ضمن نشاطه كافة، كالاستثمار المباشر في مشروعات إنتاجية أو الاستثمار في سوق الأوراق المالية أو الإقراض والوفاء في الأوراق التجارية، كالشيك والسند لأمر، والنقل المصرفي وغيرها من العمليات البنكية. والخاصية الثانية أن المودع (العميل) يكون دائناً للبنك بالمبلغ الذي أودعه، ويترتب على ذلك أن يكون له الحق دائماً في التصرف في هذا المبلغ، أي يكون له الحق في استرداده وفقاً لما تم الاتفاق عليه بينه وبين البنك، كما أن له الحق في أن يُصدر أمراً للبنك بتسديد هذا المبلغ إلى أي شخص أو أشخاص آخرين. وللوديعة المصرفية عدة صور هي: الوديعة تحت الطلب التي يستطيع المودع أن يستردها كلها أو بعضها في أي وقت شاء، والوديعة بشرط الإخطار السابق للبنك، والوديعة لأجل، والوديعة المخصصة التي يعهد فيها العميل بمبلغ معين إلى البنك مع تخصيصه لتحقيق غرض معين كشراء أسهم شركة مساهمة أو سداد أرباح الأسهم، فيلتزم البنك باحترام هذا التخصيص. ومن حيث مشروعية الودائع المصرفية فقد أصدر مجمع الفقه الإسلامي قراره رقم 90/3/95 بشأنها في دورة مؤتمره التاسع في أبي ظبي في الفترة من الأول إلى السادس ذي القعدة 1415هـ؛ فرأى أنها تُعد قروضاً بالمنظور الفقهي، حيث إن المصرف المتسلم لهذه الودائع يده يد ضمان، وهو ملزم شرعًا بالرد عند الطلب، ولا يؤثر في حكم القرض كون البنك (المقترض) مليئًا؛ ثم فرق هذا القرار بين نوعين من الودائع المصرفية: الأول: الودائع التي تدفع لها فوائد، كما هو الحال في البنوك الربوية، فقرر أنها قروض ربوية محرمة، سواء أكانت من نوع الودائع تحت الطلب (الحسابات الجارية)، أم الودائع لأجل، أم الودائع بإشعار، أم حسابات التوفير؛ أما الثاني فيتناول الودائع التي تسلم للبنوك الملتزمة فعلياً بأحكام الشريعة الإسلامية بعقد استثماري على حصة من الربح هي رأسمال مضاربة، وتُطبق عليها أحكام المضاربة (القراض) في الفقه الإسلامي التي منها عدم جواز ضمان المضارب (البنك) لرأسمال المضاربة. ثم أضاف هذا القرار أن الضمان في الودائع تحت الطلب (الحسابات الجارية) يقع على المقترضين لها (المساهمين في البنوك) ماداموا ينفردون بالأرباح المتولدة من استثمارها، ولا يشترك في ضمان تلك الحسابات الجارية المودعون في حسابات الاستثمار، لأنهم لم يشاركوا في اقتراضها ولا استحقاق أرباحها؛ ثم أجاز هذا القرار رهن الودائع المصرفية، سواء أكانت من الودائع تحت الطلب (الحسابات الجارية) أم من الودائع الاستثمارية، حيث لا يتم الرهن على مبالغها إلا بإجراء يمنع صاحب الحساب من التصرف فيه طيلة مدة الرهن، وإذا كان البنك الذي لديه الحساب الجاري هو المرتهن لزم نقل المبالغ إلى حساب استثماري، حيث ينتفي الضمان للتحول من القرض إلى القراض (المضاربة)، ويستحق أرباح الحساب صاحبه تجنباً لانتفاع المرتهن (الدائن) بنماء الرهن. وأجاز هذا القرار الحجز من الحسابات إذا كان متفقا عليه بين البنك والعميل. وسأتناول لاحقاً الالتزامات الناشئة عن عقد الوديعة المصرفية وطبيعته وانقضائه، وكيفية ضمانه في ظل الأزمة المالية العالمية.
إنشرها