Author

محاربة الفساد الإداري... إصلاح النفس أولا!

|
لا شك أن ظاهرة الفساد الإداري آفة الاقتصاد والاستقرار السياسي ونذير شؤم على البلاد والعباد. الفساد الإداري إذا أُستمرِئ ولقي القبول أصبح جزءا من الثقافة الإدارية بمكونها القيمي والسلوكي. وهو يعطل العمل والاجتهاد ويقضي على الهمم العالية والمواطنة الصالحة، بل هو الظلم بعينه إذ يضع الأشياء في غير محلها ويعطي الحق لغير صاحبه. الفساد فيه استصغار للنفوس والخنوع والذل وتحويل الأفراد لمتقاعسين طفيليين يستجدون بعضهم بعضا في أخذ ما لهم وما ليس لهم. الفساد الإداري هو إعلان أن العلاقات الشخصية والمحاباة أساس الحصول على الخدمات والسلع والمناقصات العامة. الفساد الإداري هو تعطيل القانون واندثار الحكمة والعقلانية في السلوك الإنساني في الربط بين الإجراء والهدف. الفساد الإداري يأخذ عدة أشكال وصور بعضها واضح وضوح الشمس في رائعة النهار وبعضها خفي تسلل داخل كثيرين من حيث يعلمون أو لا يعلمون. وجميعها فعل قبيح شنيع لا يقبله الدين بل يمجه ويحاربه، إلا أن البعض ارتضاه منهجا في التعامل ومسلكا للحصول على أكبر قدر من المال أو خدمة لا يستحقونها فقد لا يستنكف أحدهم عن قبول الرشوة بل طلبها، ولا يتردد طالب الخدمة في دفعها وكأنما هي عرف متبع وسلوك متوقع فالخدمة قد تُحجب عن البعض أو يتم تعطيل معاملاتهم لأنهم لم يفهموا أصول اللعبة ويدفعوا (المقسوم) فيظلون يدورون في حلقة مفرغة من الإجراءات الروتينية إلى ما شاء الله دون الوصول إلى المطلوب بينما تقدم بل وتزف على طبق من ذهب لآخرين ممن تربطهم رابطة دم أو حفنة من المال أو سلطة ونفوذ أو أية مصلحة خاصة. ويعتقد كثيرون أن الفساد الإداري مرتبط بالرشاوى والعطايا لتمرير مشروع أو مناقصة وحسب، ولكن واقع الأمر أن الفساد الإداري أشمل وأعم بل هو ظاهرة لمشكلة وليس المشكلة بعينه. فتراخي الموظفين في تأدية واجباتهم الوظيفية والتجهم في وجوه المراجعين وتأخير إنهاء معاملاتهم فساد إداري، قصور الإجراءات والأنظمة فساد إداري، عدم وضع سياسات واستراتيجيات تفيد المواطن فساد إداري، أن يكون هناك محتاجون ومعوزون في مجتمع غني فساد إداري، عندما يقيد القطاع الخاص بالروتين الحكومي دون مبرر بل يسلبه خاصيته في البحث عن الأفضل والانطلاق إلى آفاق أوسع وأرحب واستكشاف إمكانات جديدة فإن ذلك بسبب الفساد الإداري، عندما يكافح وينافح رجل الأعمال من أجل الحصول على مستحقاته فساد إداري، عندما نضع الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب فساد إداري، عندما لا يُساءل من يخطئ فساد إداري، عندما تكون الخدمات العامة دون المستوى المطلوب فساد إداري، عندما تدار الأجهزة الحكومية إدارة أزمات فساد إداري. لكن لماذا الفساد الإداري في بلدان تنعم بنعمة الإسلام وبقيم وتقاليد اجتماعية حميدة؟ أعتقد أن الإجابة عن هذا السؤال تأخذ عدة أبعاد: أولا، الخطأ في فهم الفساد الإداري على أنه أخطاء فنية إدارية وليس أخطاء أخلاقية ومن ثم كان وبشكل خاطئ الربط بين الإصلاح الإداري والفساد الإداري فالإصلاح الإداري موجه نحو تطوير الأجهزة الإدارية فنيا لكن لا يهتم بالسلوكيات وأخلاقيات التعامل ووضع الضوابط للمسائلة والشفافية لذلك فإن الإصلاح الإداري يستوجب لنجاحه دعما سياسيا. ثانيا، القوانين الإدارية قوانين واسعة مطاطية تحتمل عدة تفسيرات وتفهم بشكل تجريدي أي دون فهم المعنى الصحيح والهدف الأساس الذي وضعت من أجله، ما يعطي الفرصة للموظف أن يستخدم القانون كما يتفق مع أهوائه الشخصية فيسخر القانون لمن يعرف ويجعله سدا منيعا لمن لا يعرف. ثالثا، رواتب وأجور الموظفين العموميين متدنية للحد الذي قد لا تفي باحتياجاتهم المعيشية أو العجز عن مجاراة الآخرين الأكثر حظا ما يغري بعضهم بأخذ الرشوة على أنها تعويض لما يفترض أن يحصل عليه أو حقه المسلوب!. أو أن يتقاعس في العمل ولسان حاله أنني أعمل بقدر راتبي الضعيف. ونسي أو تناسى أنه ارتضى التعاقد على العمل بذلك الراتب، وأنه لا تزرُ وازرة وزر أخرى. رابعا: ليس هناك استقلال مالي وإداري وتحديد للمسؤوليات بل ليس هناك وصف وظيفي ولا تحديد لما يتوقع من صاحب القرار الذي على أساسه تتم المحاسبة والمساءلة فيُعمد إلى تقييم أداء المسئول على مدى تطبيقه الروتين إجرائيا وليس نتيجة فيكون في الظاهر مطبقا للإجراءات، ولكن من دون التعرف على النتائج وفي أي اتجاه تم تطبيقها ولمصلحة من! كما أن ذلك من شأنه الاعتماد في عمل الأشياء على الروتين دون وعي وتجديد بحيث لا يتطلب القدرة على الإبداع والابتكار في معالجة الحالات المختلفة. ما يعني التركيز على المهارات الإدارية وليس القيادية خاصة في المناصب العليا. وهذا بطبيعة الحال يؤدي إلى الانغماس في العمل الروتيني دون الالتفات إلى التخطيط ووضع الاستراتيجيات واستباق الأحداث وإيجاد الحلول بناء على التوقعات والمتغيرات المستقبلية. الفساد الإداري هو نتيجة حتمية لسلبية المواطن مسئولا كان أو مستخدما للخدمة في محاربة هذا الداء العضال فتجد الكل متحمسا مدركا لخطورة الفساد الإداري لكن لا أحد يجرؤ على الحديث عنه فربما تصادم ذلك مع مصالحه الخاصة أو خوفا من أن ينعت بأنه يحشر نفسه فيما لا يعنيه ومن ثم يلقى ما لا يرضيه! لقد أدرك ولاة الأمر خطورة الفساد بكل أنواعه وبادروا إلى إنشاء هيئة لمكافحة الفساد، إضافة إلى لجنة حقوق الإنسان وهذا ينم عن الحس السياسي المرهف والرؤية الثاقبة والفكر المستنير ومبدأ أن العدل أساس الحكم الذي أسس له الملك عبد العزيز موحد البلاد وباني الدولة الحديثة، وكل ذلك يدور في فلك القيم الإسلامية ومبادئ الشرع الحنيف. أما على الصعيد الشعبي فتكاد تكون جائزة السعفة للقدوة الحسنة الوحيدة كمؤسسة مجتمع مدني المتخصصة في نشر ثقافة الشفافية والمساءلة وما يتبعها من قيم أخرى. الفساد ظاهرة تلازم جميع المجتمعات دون استثناء إنما التفاوت هو في نسبة الفساد وأساليب وجدية معالجته. وسيظل الفساد مشكلة اجتماعية وثقافية في المقام الأول تستدعي التصدي لها من قبل الدوائر الرسمية وغير الرسمية. وما يهم في هذا السياق هو التأكيد على أن جهود الإصلاح تبدأ بالنفس أولا ثم تنتقل لمستويات أوسع وأعلى، ولذا يخطئ من يعتقد أنه خارج دائرة التأثير إما سلبا بالانسحاب وإما إيجابا بالمبادرة بإصلاح النفس ومن حوله. قد يكون أساس المشكلة اعتقاد البعض أن لا علاقة له بالمشكلة وإلقاء اللائمة على الغير والتخلي عن مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي هي سبب خيرية الأمة وصلاحها. علينا أن نبدأ بأنفسنا لـ "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
إنشرها