Author

تحطيم المعيار:حفرة وقع فيها الغرب, فهل نحن واقعون؟

|
"لقد أصبح مجتمعنا يتميز بحساسية مفرطة, فقد أحجمنا عن الجهر بما ينبغي الجهر به لأننا نريد تفادي جرح مشاعر الآخرين,أو لأننا لا نريد أن نطلق الأحكام على الناس أو ننتقدهم .لذا لجأنا للحيادية الأخلاقية, فلا مكان للحكم على التصرفات، بل من المحظور وصف تصرف ما بالخطأ أو الصواب. إن رفضنا لتقييم تصرفاتنا يعني شيئا واحدا : إنكار المسؤولية الفردية ومفهوم الإرادة الحرة في الاختيار.لقد أشرفنا على أن نصبح مجتمعا متجردا من الأخلاق حيث لا يجرؤ أحد على قول الحقيقة أو إنكار التصرف الخاطئ, لذا أصبح لدينا أطفال لا يعرفون حدود حريتهم الشخصية ويتصرفون كما يشتهون دونما اعتبار لشيء سوى لذتهم وسعادتهم الشخصية". قد يسأل أحدهم:ما هذا الكلام الرجعي؟ ألم يأن لهؤلاء المتشددين أن يلحقوا قطار "المدنية والتحضر!" ويتخلوا عن الحكم على الأشياء بمعيار الخطأ والصواب؟ ولكن من هم أولئك المتشددون؟ أهم بعض من مشايخ السعودية؟ أو ربما من علماء الأزهر؟ألا زلنا ندندن بأغنية (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)؟ الحقيقة أن من يقول هذا الكلام – الوارد في أول المقال – لا علاقة له بالسعودية ولا بمحمد بن عبد الوهاب ولا بالأزهر, بل لا علاقة له بمحمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة والسلام... إنه ديفيد كاميرون وهو رئيس الحزب المحافظ البريطاني وقد قال ما قال في خطبة له ألقاها في جلاسجو في تموز (يوليو) من العام الجاري. يا للعجب! ألم يصل الغرب لقمة الحضارة والتمدن؟ ألم يصلوا إلى درجة من( تقبل الآخر!) ومن التسامح، حيث لا مكان لهذه القضايا عندهم؟ قد يظن الواهم ذلك, وقد يتخيل في غمرة انبهاره بأوجه حضارة القوم – والتي تستحق الإعجاب، بل والاستفادة منها في بعض أوجهها – إذن قد يتخيل أخونا أن قضية الأخلاق ومعيار المعروف والمنكر مسألة عفا عليها الدهر. ولكن كون بعض القادة السياسيين في تلك الدول وغيرهم من قادة الفكر مثل بريجنسكي (في كتاب حدود الحرية) يناقشون هذه الأمور يوضح للأخ الكريم المنبهر علة تفكيره. فما الذي ينشده كامرون بتصريحاته تلك؟هل يتمنى العودة إلى عصر الكنيسة، حيث محاكم التفتيش والتنطع ؟ لا يبدو هذا تصورا عاقلا ولا بد أنه يسعى لحل آخر : عودة المعيار الذي يكيف تصرفات الفرد والجماعة بما فيه المصلحة (مصلحة الفرد والجماعة, أما التناقض بينهما فمحض وهم), وعودة المسئولية الفردية الحقيقية التي لا تمت بصلة للحرية الإباحية وغير المسؤولة التي يمارسها الفرد الغربي في العموم, وعودة إحساس المجتمع بقيم مشتركة، بل وبالغيرة على نفسه من السقوط الأخلاقي الذي هو –في رأي كثير من المؤرخين الكبار – بداية الانهيار الكامل لتلك الحضارة. كل هذا منطقي جدا إذا أخذنا في الاعتبار قول الله عز وجل:"كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر".وبما أن الله هو خالق هذا الكون وبالتالي خالق سننه الكونية والاجتماعية يتضح أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من دعائم قيام الحضارة واستمرار عزتها وتطورها (عوضا عن التدمير الذاتي الذي أصاب الكثير من الحضارات), وبالعقل، فإن العكس صحيح أي أن غياب هذه الحماية الذاتية سبب لتدهور أي أمة وانحطاطها كما حدث لبني إسرائيل الذين قال رسولنا عنهم :" أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى أخاه فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع؛ فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض". ثم تلى الآية:" لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ.كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون". ومن المفترض أن تكون هذه الآيات آخر المقال في هذه القضية, إلا أن خطأ منهج التفكير يستدعي الإسهاب في تحليل الموضوع أملا في أن ينجلي الضباب عن العقل فيمسي قادرا على قبول الحق. فأما آن الأوان أن نستفيد فعلا من الحضارة الغربية استفادة الذكي الفطن الذي يدرك الحفر ليتحاشاها لا لينضم لمن قبله في الوقوع فيها؟
إنشرها