Author

الضمانات والمعجزات

|
أرسل لي أحمد الأحمد من المغرب قصة لم ينسجها خياله، بل نسجتها أساطير بني إسرائيل، في عملية تخدير ممتازة للوعي، تقول القصة إن امرأة دخلت على نبي الله داود - عليه السلام - فقالت: يا نبي الله ....أربك...!! ظالم أم عادل? فقال داود: ويحك يا امرأة هو العدل الذي لا يجور، ثم قال لها: ما قصتك؟ قالت: أنا أرملة عندي ثلاث بنات أقوم عليهن من غزل يدي، فلما كان أمس شدّدت غزلي في خرقة حمراء وأردت أن أذهب إلى السوق لأبيعه وأبلّغ به أطفالي فإذا أنا بطائر قد انقض عليّ وأخذ الخرقة والغزل وذهب، وبقيت حزينة لا أملك شيئاً أبلّغ به أطفالي. فبينما المرأة مع داود، عليه السلام، في الكلام إذا بالباب يطرق على داود، فأذن له بالدخول وإذا بعشرة من التجار كل واحد بيده: مائة دينار، فقالوا يا نبي الله أعطها لمستحقها. فقال لهم داود عليه السلام: ما كان سبب حملكم هذا المال؟ قالوا: يا نبي الله كنا في مركب فهاجت علينا الريح وأشرفنا على الغرق فإذا بطائر قد ألقى علينا خرقة حمراء وفيها غزل فسدّدنا به عيب المركب فهانت علينا الريح وانسد العيب ونذرنا لله أن يتصدّق كل واحد منا بمائة دينار، وهذا المال بين يديك فتصدق به على من أردت، فالتفت داود- عليه السلام- إلى المرأة وقال لها: رب يتجر لكِ في البر والبحر وتجعلينه ظالمًا؟ وأعطاها الألف دينار، وقال: أنفقيها على أطفالك. القصة جميلة ولكنها تذكر بفرانسيس بيكون من فلاسفة التنوير الذي كان يجادل كرادلة الكنيسة أنه ما دعا أحد في سفينة هالكة إلا نجا. فكان يقول: وكم عدد الذين غرقوا. وهذا يعني أن الإيمان يجب أن يبنى على سفينة أقوى من التيتانيك لا تغرق. صحيح قد تحصل عجائب ومعجزات ما علمنا وما لم نعلم، ولكن القرآن ميزته أنه كتاب بشّر بعصر نهاية المعجزات، وجاء هذا في عشرات الآيات، ولعل أعظمها تلك التي جاءت في نهاية سورة الإسراء حين طلب مشركو قريش أن يفجر لهم من الأرض ينبوعا، أو تكون للنبي جنة من نخيل وعنب فيفجر الأنهار خلالها تفجيرا، أو يسقط السماء عليهم كسفا، أو يأتي بالله والملائكة قبيلا، أو يكون له بيت من زخرف، أو يرقى في السماء، بل حتى لو رقى وصعد السموات العلا وركب الغمام مجنحا فلن يؤمنوا له حتى ينزل عليهم كتابا يقرؤونه، ولكن لو استجاب النبي لطلباتهم العشرة هل كانوا به مؤمنين؟ ومنه قفل الإسلام عصر المعجزات وبشر بعصر العقل والضمانات. ولذا فأعظم ما فعله العقل البشري هو الضمانات ضد الشيخوخة والعجز والكسل والبطالة والتشرد والمرض، فهذه هي الحضارة بتعريف المفكر الجزائري مالك بن نبي .. لا في انتظار المعجزات.. والقصة التي رواها لي الأخ أحمد من المغرب تذهب إلى طريق مختلف، فهي تريد فتح باب المعجزات الذي أغلق، ولا تلج باب الضمانات الذي حرره بنو الإنسان منذ أكثر من قرن ونصف ولم نشم رائحته عندنا بعد... وبعد أن كتبت هذا للأخ أحمد لم يستوعب مقالتي، فقال اشرح وهل تعارض رحمة الله؟ وكلامي أن خرقة سدت خرق سفينة، وسيدة تتظلم عند داود، فتأتي سفينة شاردة بألف دينار أو دولار من علم الغيب أمر وارد، ولكن فقراء العالم الإسلامي وجياعهم لن يغنوا من فقر ويشبعوا من جوع، مثل الضمانات التي تقدمها الحكومة الكندية للنساء الشاردات المضروبات من أزواجهن، أو الجياع الذين تطعمهم براتب يقيهم مسغبة الجوع، أو تعطيهم تعويضات العمل وراتب التقاعد والعلاج والدواء المجاني؛ فهذه إنجازات تختلف تماما عن قصة بني إسرائيل التي رواها لي الأخ أحمد مشكورا.
إنشرها