Author

أهمية وجود نظام لمكافحة الإسراف في الاستهلاك

|
تناولت في مقالات سابقة قضية الإسراف في استهلاك الماء والكهرباء وكيفية مواجهتها من خلال حملات التوعية، وتساءلت عما إذا كانت تلك الحملات تكفي لتحقيق الترشيد المطلوب وهل يمكن الأخذ بسياسة التجريم والعقاب بإصدار نظام يجرم الإسراف في الاستهلاك ويقرر عقوبات جزائية رادعة على مرتكبي مخالفات الإسراف المتعمد في الاستهلاك؟ الحقيقة أن فكرة وجود نظام لمكافحة الإسراف غير المبرر تعد فكرة طموحة تهدف إلى وضع ضوابط نظامية تكفل تجريم عمليات الإسراف، وتقرير العقوبات الرادعة على مرتكبي هذا السلوك غير الحضاري الذي يعد إضراراً بالاقتصاد الوطني وتبديداً للثروات وإهداراً لها. ذلك أن الاستهلاك المفرط والمتزايد وغير المبرر يشكل عبئاً على اقتصاد الدولة، ما يتطلب وضع استراتيجية ضمن السياسة الاقتصادية لمواجهتها مستقبلاً؛ فتشير بعض الإحصاءات إلى أن احتياجات دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية من الطاقة الإضافية تقدر بـ 100 ألف ميجاوات خلال السنوات العشر المقبلة لتلبية الطلب المتزايد على الطاقة. كما أن الطلب العالمي على الطاقة يتزايد بمعدل أكثر من 5 في المائة سنويا، لذا فإن دول مجلس التعاون الخليجي تعتزم استثمار نحو 50 مليار دولار في قطاع الطاقة. تشير بعض الدراسات إلى أن 5 في المائة من سكان العالم يعيشون في منطقة الشرق الأوسط، إلا أن المنطقة تمتلك 1 في المائة فقط من مصادر المياه المتجددة في كوكب الأرض، لذا فإن هناك حاجة لضخ استثمارات إضافية لإنشاء شبكات أنابيب المياه وأنظمة معالجة مياه الصرف الصحي وغيرها. ومن المتوقع أن تتضاعف معدلات الإنفاق على أنظمة معالجة مياه الصرف الصحي خلال السنوات العشر المقبلة. وهذا يشير أيضاً إلى أن قضية ترشيد استهلاك المياه تتمتع بأهمية خاصة بالنسبة للسعودية, لأنها تندرج ضمن الدول التي تعاني من ندرة موارد المياه العذبة, بسبب موقعها الجغرافي، ظروفها المناخية، انتشار الصحاري، اعتمادها على مياه الأمطار والمياه الجوفية؛ وعدم وجود أنهار عذبة فيها, وتمثل المياه الجوفية نحو 81.5 في المائة من إجمالي احتياجاتها من المياه. لهذا فإنني أرى أنه لمواجهة مشكلة الإسراف في استهلاك المياه والكهرباء، لا تكفي حملات التوعية وحدها، بل يمكن إصدار نظام خاص يسمى "نظام مكافحة الإسراف في الاستهلاك"؛ بحيث يتضمن نصوصاً تفرض التزامات قانونية على أصحاب المباني الخاصة والتجارية، سواء أكانوا أشخاصاً طبيعيين أو معنويين، تتمثل في قيامهم بصفة دورية منتظمة، بعمليات الإحلال والتجديد والصيانة لجميع أجزاء شبكة التمديدات المائية والكهربائية الداخلية للمباني، وخزانات المياه الأرضية والعلوية لتكون في حالة جيدة وصالحة للاستعمال. ويمكن أن يحظر هذا النظام عليهم استخدام أو السماح باستخدام المياه الصالحة للشرب في غسيل السيارات، أو المعدات أو تنظيف الأفنية الخارجية للمباني أو المنشآت، إلا في الحالات التي يرخص فيها بضوابط محددة. كما يحظر عليهم ترك أجهزة الإنارة المثبتة على الأسوار أو الواجهات الخارجية للمباني أو المنشآت العامة أو الخاصة مضاءة أثناء النهار، ويلزم النظام المقترح أصحاب المباني والمنشآت تركيب مفاتيح آلية خاصة بالإنارة الخارجية للمباني أو المنشآت، ويسهل التحكم فيها بإطفائها مركزياً عند عدم الحاجة إليها؛ كما يلزم شاغلي المباني، سواء أكانوا مُلاكاً أم مستأجرين، إصلاح التسريبات الناجمة عن الأجزاء التالفة أو المكسورة في الشبكة الداخلية للمباني أو المنشآت. ولتحقيق فاعلية هذا النظام يمكن أن يتضمن نصاً يقرر إنشاء هيئة عامة تتولى، في سبيل العمل على ترشيد استهلاك الكهرباء والماء، بالتنسيق مع الجهات المختصة، تطوير الاشتراطات الفنية الخاصة بالعزل الحراري، حفظ الطاقة الكهربائية في المباني السكنية والمنشآت التجارية والصناعية والاستثمارية، العمل على تحديث الاشتراطات الفنية للتمديدات الداخلية للماء والكهرباء، وتحديث أساليب التدقيق بما يضمن التقليل من فاقد الطاقة الكهربائية والمياه في المباني والمنشآت ذات الاستهلاك العالي. كما تتولى الهيئة تطوير الاشتراطات والمقاييس الفنية للأجهزة والأدوات والمعدات المستخدمة في أعمال التمديدات المائية والكهربائية، بما يواكب التقنيات الحديثة المستخدمة في هذا المجال، وربطها باشتراطات منح تراخيص البناء. وتقدم الهيئة المشورة الفنية لمن يطلبها بشأن استخدام الأجهزة والأدوات الحديثة التي تسهم في ترشيد استخدام الماء والكهرباء؛ فضلاً عن أنها يمكن أن تمارس دوراً مهماً في عملية التوعية وذلك بالعمل على نشر ثقافة ترشيد استهلاك الكهرباء والماء، بالتنسيق مع وزارة المياه والكهرباء ووسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية، وتسهم مع الجهات المختصة في العمل على إدراج مفاهيم ترشيد الماء والكهرباء ضمن المناهج الدراسية، وفي برامج الدعوة والوعظ والإرشاد الديني. يتضمن النظام المقترح نصوصاً تحظر على ملاك وشاغلي المباني والمنشآت ترك الأجزاء التالفة أو المكسورة في شبكة المياه الداخلية، التي من شأنها أن تؤدي إلى تسريب المياه دون إصلاح. وفي سبيل تحقيق فاعلية عمل الهيئة المقترحة يمكن منح موظفيها صفة رجال الضبط الجنائي، وذلك في ضوء ما تنص عليه المادة 26/7 من نظام الإجراءات الجزائية السعودي، ومن ثم تكون لهم صلاحيات ضبط وإثبات مخالفات نظام الترشيد والقرارات والتعليمات التي تصدر تنفيذاً له، ويكون لهم في سبيل ذلك صلاحية دخول المنشآت والمحال التجارية والصناعية والعامة، وإجراء الكشف والفحص على التمديدات المائية والكهربائية الداخلية، وضبط وإثبات مخالفات الإسراف في الكهرباء والماء، ثم الرفع إلى الجهات المختصة لتحريك الدعوى الجزائية ضد المخالف. يمكن أن ينص النظام المقترح على عقوبة الغرامة الرادعة، وتضاعف بحديها الأدنى والأعلى في حالة العود؛ فيعتبر عائداً من ارتكب جريمة مماثلة خلال سنة من تاريخ تنفيذ العقوبة المحكوم بها أو انقضائها بمضي المدة؛ ويجوز للهيئة المختصة إجراء الصلح في هذه الجرائم، وذلك قبل تحريك الدعوى الجنائية أو أثناء نظرها وقبل الفصل فيها بحكم نهائي، وذلك مقابل سداد المبالغ المحددة.
إنشرها