اقتصادات الصدقة

انتابتني الحيرة وأنا أحاول كتابة عنوان موائم لمقال هذا الأسبوع. وفي الأغلب، العنوان آخر ما أكتبه قبل إرسال المقال إلى هيئة التحرير. من تجربتي الصحافية، أرى أن كتابة العنوان أصعب مرحلة في الكتابة. كثير من الأحيان أتمنى أن يأخذ المحررون على عاتقهم كتابة العناوين لمقالاتي، لأن صياغتها ليست من اليسر بمكان. وقد يتساءل القراء الكرام، إن كان في الأساس هناك مصطلح مثل "اقتصادات الصدقة"؟ أو متى أصبحت الصدقة مفهوما اقتصاديا يستوجب البحث والتمحيص والنظريات والتحليل وجمع المعلومات؟ نعم. لدينا في العلوم الإقتصادية فرع صغير نطلق عليه "اقتصادات الصدقة" أو Economics of Charity . ما يؤخذ على هذا الشق غير الشائع في الاقتصاد أن دراسته تتبع منهجا له شقين أساسيين: الأول، منافعه، والثاني، ربحيته. وأقرب مرادف لغوي للصدقة هو الإحسان، وأظن أن الإشادة بهما والحث عليهما تقع في صلب الواجبات إنسانية كانت أم دينية أم فكرية أم غيرذلك. ولا يشير إليهما الخطاب الإعلامي صراحة، ويتجنب المرادفتين الخطاب السياسي أيضا من خلال صياغة مرادفات أو مصطلحات أخرى لتخفيف التأتير النفسي في المستفيدين، أي الفقراء والمستضعفين والناس المنكوبين بسبب الكوارث والحروب وما أكثرهم اليوم. واحد من كل 22 شخصا في العالم اليوم بحاجة إلى الصدقة أو الإحسان، هذا حسب إحصائيات الأمم المتحدة، وهذا يعني أن عددا هائلا من البشر، نحو 365 مليونا، تلتصق بطونهم بظهورهم، وبينهم الملايين على حافة المجاعة. لأن الحاجة إلى الصدقة والإحسان على أشدها، لا نلحظ إشارات واضحة إلى المفردتين في الخطاب الإعلامي، ويتجنبهما الساسة، ولا تستحسنهما المنظمات في التسميات التي تطلقها على نفسها. سنترك موضوع المرادفات والتسميات جانبا على أن نرجع إليها في تقرير منفصل. المصطلح المفضل هو المنظمات الخيرية أو relief agencies. وهذه المنظمات أو المؤسسات كثيرة ومتشعبة منها ما يعود للدول أو الأفراد أو المؤسسات الدينية أو مجموعات لا على التعيين. وفي الولايات المتحدة، مصدر المشاريع الخيرية دون منازع، وتأتي بعدها الدول الغربية، صارت الصدقة اقتصادا، لأن المبالغ التي في حوزة المنظمات الخيرية كبيرة جدا تعبر سقف مئات الملايين من الدولارات إلى البلايين من الدولارات. كل إحسان للمستضعف والفقير والجائع والمنكوب نعمة، ولن نحس الشقاء إن لم نقع في حباله، بيد أن الولوج في عالم الصدقة واقتصادها قد يثير بعض الدهشة والصدمة. الطفل الجائع همه وجبة طعام، أما كيف أعدت وكيف وصلت إليه فهذا آخر أمر يفكر فيه. ولكن علينا أن نفكك اقتصاد الصدقة، ليس انتقادا، بل من أجل إلقاء الضوء أولا على كيف، ولماذا تتقدم هذه الدول في الأعمال الخيرية، وما مصدر الأموال الهائلة التي تخصصها للإحسان. هناك نظرية تستهويني كثيرا في العلوم الاقتصادية، وهي النظرية الاقتصادية النقدية. شغفي بهذه النظرية ينبع من انبهاري بالنظرية النقدية الغربية والإتكاء عليها في دراستي وأبحاثي رغم بعض مآخذها. المفكرون الذين وضعوا أسس النظرية النقدية التي لها موطئ قدم اليوم في أغلب العلوم الإنسانية والاجتماعية وغيرها حددوا ثلاثة أسس لها: التعليل والممارسة والقياس. ويضيف بعض المفكرين النقديين أساسا آخر وهو "الحلول"، بمعنى أنّ التفسير والتفكيك ليسا كافيين إذا لم يكن لدينا اقتراحات لتحسين الواقع. أمضيت الأسبوع الماضي وأنا أقرأ بنهم عن اقتصاد الصدقة والمنظمات الخيرية. لم أفلح في تفكيكها، ولكن توصلت إلى أن هناك كثيرا مما لا نعرفه عن الأموال الهائلة التي تحصل عليها إلى درجة أن ما تقوم به قد يخرج من خانة الإحسان الإنساني، لأن ما تنفقه فائض، قد يأتي استجابة إلى ما ساهم أصحاب الأموال في خلقه من مأساة أو من خلال سماح ضريبي قد يستفيد منه أصحاب الأموال أكثر من الفقراء. وللحديث صلة.

  •  

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي